الأربعاء، 18 نوفمبر 2015


أحزان السينما المصرية في وداع نجمها المثقف:

نور الشريف… كلاكيت آخر مرة
كمال القاضي
 
القاهرة ـ (القدس العربي) : مراسم عزاء الفنان القدير نور الشريف كانت دليلا دامغا على شعبيته الجارفة وتلمس جمهوره العريض لتميزه فنيا وإنسانيا.
عاش نو الشريف حياة مليئة بالصخب والأضواء ووصل إلى أعلى مستوى من الشهرة، ولكنه ظل يحمل بداخله روح الإنسان الآخر محمد جابر محمد عبد الله، ابن حي السيدة زينب المنحدر من أصول صعيدية، الطفل الذي فقد والده وهو لا يزال رضيعا وتربى في كنف عمه إسماعيل الذي تولى رعايته وعطف عليه وأنزله منزلة أبنائه.
تأثر محمد جابر الشهير بنور الشريف بهذه الشخصية الصارمة فتعلم منها الانضباط في الدراسة والعمل والحياة العامة، ولم ينس أن يضع لها اعتباراتها فيمنحها البطولة في عمل درامي تلفزيوني هو الأهم والأشهر في مشواره الفني، مسلسل )لن أعيش في جلباب أبي( إذ تقمص شخصية عبد الغفور البرعي تاجر الخردة العصامي وأسقط بعض ملامحها على عمه الذي استفاد كثيرا من تجربته.
لقد صرح النجم والفنان الكبير بهذه القصة إبان عرض المسلسل ونجاحه المبهر وكأنه أراد أن يرد الجميل للرجل الذي رباه في أن يجعله جزءا من تاريخه الإبداعي، هكذا كان نور وفيا بارا بمن تكفل به ورعاه طفلا وصبيا ومراهقا على أعتاب الشباب، ولهذه الأصالة وارتباطه بالأجواء الشعبية والطبقات البسيطة من أولاد البلد، جاء وداعه على النحو المشرف، وامتلأت قاعة مسجد عمر مكرم بفئات مختلفة من المعزين في احتفاء غير مسبوق اختلطت فيه مشاعر الحزن العميق بمشاعر الدفء والمودة، فالغالبية العظمى من الوسط الفني حضرت وتوافدت أفواجا وأطيافا، رغم سوء الأحوال الجوية وموجة الحر الشديدة التي عمت ربوع مصر والقاهرة.
وبين فئات المعزين وقفت الفنانة بوسي وابنتاه سارة ومي يتلقين العزاء بصبر وجلد في مشهد مؤثر للغاية، مضى نور الشريف إلى حيث يمضي الجميع، تاركا العظة والعبرة ودرسا مستفادا بأن كل شيء إلى زوال مهما طال الأمد، فنجم الأمس الذي طالما أحاطته الأضواء والتف حوله المعجبون وقطع أشواطا في السفر والترحال لحضور مهرجانات هنا وهناك لتكريمه ومنحه الجوائز والأوسمة والأنواط، سرعان ما تحول إلى ذكرى وانطوت صفحته الشخصية، ولم يبق منه غير إبداعه المتميز، أفلاما ومسلسلات ومسرحيات، نذكر بعضها للتدليل على موهبته الفذة وحسن اختياره للأدوار، لا إحصاء العدد، فالمنجز الإبداعي لا يقاس بالكم، بل القيمة الفنية التي يحملها المضمون هي الأدل والأهم، فمن بين 150 فيلما هي حصيلة ما قام ببطولته نور الشريف، برزت أفلام تمثل علامات حقيقية في مشواره الطويل، يأتي على رأسها ناجي العلي العمل الفني الاستثنائي في تاريخه الحاوي للفكر والفن والسياسة، والمعبر عن جل المواقف الصعبة والمواجهة الشجاعة للفنان الراحل الذي آمن بوطنه العربي الكبير وأدرك مسؤوليته تجاهه ولم يخش من إشهار سلاح النقد في وجوه حكامه، وأعلن رأيه بصراحة على لسان رسام الكاريكاتير الفلسطيني الشهير فدفع الثمن فادحا.
ولم يصمت الفنان الكبير ولم يغض الطرف عن القضايا التي تشغله وجدد صرخته في إطار آخر عبر شاشة التلفزيون وخشبة المسرح، فكانت مسرحية )القدس( ومسلسل )ما تخافوش( بمثابة إصرار على مواصلة التنديد والشجب والتلميح، بأن لا شيء يهم أمام كلمة الحق.
ولم يكن ذلك جديدا على الفنان المشاكس الذي قدم في وقت مبكر فيلم «شوارع من نار» أحد الأعمال التي فضحت الواقع بسوءاته وفساده في أربعينيات القرن الماضي وفترة حكم الملكية، وهو ما تمت صياغته بشكل مختلف وقدمه مسرحيا في واحدة من مسرحياته المهمة )كنت فين يا علي( أوائل التسعينيات ليعيد الإسقاط مرة أخرى على أوجه الخلل والفساد رابطا بين الماضي والحاضر وإفرازات كل عصر وأوان.
ودأب النجم السينمائي الكبير على فكرة السير بالتوازي في دروبه الفنية العسيرة التي كثيرا ما جلبت له المتاعب وكانت سببا في إشعال الحروب ضده، فقد قدم في سنواته الأخيرة مسرحيتين مهمتين هما، )يا مسافر وحدك( و)الأميرة والصعلوك(، وكالعادة عرج البطل على القضايا السياسية والاجتماعية الأكثر إلحاحا من وجهة نظره، وكان على رأس ما طرح قضية الحرية بكل وجوهها ما يتعلق منها بالفرد والمجموع هو حق مكتسب لا يتجزأ، هكذا كان يراها ويؤمن بها.
الأفكار نفسها التي اتسمت بها أفلامه المهمة )أهل القمة( و)أيام الغضب( و)كتيبة الإعدام( و)البحث عن سيد مرزوق( و)ليلة ساخنة( وغيرها، فرغم الأبعاد والرؤى المختلفة في كل فيلم إلا أن المضمون الإجمالي واحد، الدفاع عن حقوق المواطن البسيط، ففي فيلم )آخر الرجال المحترمين( تتعدد الخيوط الدرامية فيبدو الموضوع من أول وهلة كأنه تربويا بينما في عمقه الأصلي هو رسالة متعددة المستويات والملاحظات تتعلق بالأخلاق والأمانة والتربية والتنشئة والتحضر، وكلها معان متصلة منفصلة تصب في خانة واحدة كان يعي نور الشريف ضرورة وصولها إلى الجماهير في أبسط الصور، وهناك قاسم مشترك بين كل أفلامه سواء المركب منها أو البسيط هو ذلك الاهتمام بالإنسان فهو محور الارتكاز في كل القضايا حتى في الأفلام التي تبدو فكرية وتاريخية كـ»المصير» على سبيل المثال ظل الاعتناء بفكرة التنوير كاحتياج إنساني وضرورة حتمية تحميه من شرور نفسه واضطراباتها.
المشوار الإبداعي طويل ومتسع لمعان كثيرة ولكننا سنكتفي بما أشرنا إليه وقصدنا من خلاله أن نرسم صورة بانورامية لنور ومشواره وفنه .
القدس العربى August 17, 2015

أنت هنا: دنيا المسرح دنيا المسرح مقالات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق