مسرح لكل العصور
من المسرح العالمي : السيد بونتيلا وتابعه ماتي
بقلم : بدرالدين حسن علي
إنها رائعة الكاتب المسرحي الكبير برتولد بريخت ، والبعض ينطقها برتولد بريشت ، ولن نجعل من هذا معركة !فهي مسرحية التخرج في معهد الموسيقى والمسرح عام 1973بمشاركة زملائي من الطالبات والطلاب : نعمات عبدالرحيم صبحي ، الطيب المهدي ، عزالدين هلالي ، إبراهيم أحمد بخيت ، عبدالحفيظ محمداحمد ، سيداحمد الطاهر ، عبدالعظيم كباشي وعمر الطيب الدوش ، أحرزت الدرجة الأولى وكانت المسرحية قدمت على خشية مسرح الفنون الشعبية " دار المرشدات سابقا بأم درمان " .
إمتلأت القاعة عن آخرها ، وكان من بين الحضور إبن خالي عبدالله عثمان بابكر وصديقي الفاتح رحمة حيث قدما لي دعوة للسهر معهما والحديث عن المسرحية وعن برتولد بريخت والمسرح الملحمي .
لم أكن في ذلك الوقت قد زرت ألمانيا الديمقراطية ، ولا شاهدت البرلين إنسامبل ، ولكن قرأت عددا من مسرحيات بريخت مثل : بعل - طبول في الليل - إدوارد الثاني ملك إنكلترا - أوبرا الفروش الثلاثة - صعود وسقوط مدينة مهاجوني -حياة غاليليو - الإستثناء والقاعدة - الأم - دائرة الطباشير القوقازية وغيرها
إمتلأت قاعة المسرح بالجمهور والبعض ظل وقوفا ، كان ذلك أول عرض يسترشد بنظرية المسرح الملحمي مطبقا إرشادات برتولد بريخت ومسرح البرلين إنسامبل " المسرح الصغير " في برلين .
روعة وعظمة المسرحية في كونها لا تتحدث عن فكرة محورية ، ولا تتبنى أيدولوجية معينة ، وإنما تستمد مفهومها من الملاحم الشعبية التي يمكن أن نجدها في أي بقعة على ظهر الكوكب .
تتحدث المسرحية عن السيد بونتيلا المحاط بهالة من العظمة الأسطورية كأحد كبار الإقطاعيين في قريته ، هالة لا يهتم من أحاطوه بها بكونه أحد الظالمين الفسدة الذين يتناقض خطابهم بين قمة الفساد وقمة الإصلاح ، تماما كما يحدث اليوم في السودان / منتهى الفساد ولكنه بأمر الله ويقولون منتهى الإصلاح ، هذه المسرحية التي رأت النور في السبعينات لا يمكن.
أن تقدم اليوم .
روعة بريشت أنه جعل السيد بونتيلا عندما يشرب وتأخذه نشوة الخمر وتسكره تظهر إنسانيته ، فيكتشف فداحة الجرم الذي إرتكبه في مجتمعه فيقر بأنه رجل شديد السوء ، يحارب المباديء ويترصد أصحابها ، ثم يبكي ويتمنى أن تسقط الحواجز بينه وبين مجتمعه ، ثم يتوب ويتوب ، ويطلق تصريحا يحمل بين سطوره الأمل في التغيير ، ويتعهد فيه بلم شمل أهل القرية وتحقيق مطالبهم حتى يمكنه أن ينعم بينهم بحياة أكثر هناءا ، وأنه قرر التكاتف معهم بحكم موقعه لبناء غد اكثر إشراقا ، وعندما يفيق ويصحو من سكرته ينقلب إلى وحش حقيقي ، له مخالب الطبقة المستغلة وأنيابها ، وفيه قسوتها وخداعها ، إنه كائن عاد إلى أطماعه واستغلاله من جديد ، ونسي ما تعهد به وكأنه لم يكن ، وكأنه لم يسكر قط !!! الخمر في المسرحية رمز ؟؟؟؟
وبين سكر " السيد بونتيلا " وصحوته يظهر تناقض خطابه ، وتناقض الخمر واللبن ، وتضارب قراراته تضارب الليل والنهار ، وكأنما أخرج السكر حقيقته الكامنة ، وكشف ستر إحساسه الدفين بالذنب الذي يرتكبه في صحوته التي يحياها لحماية مصالحه وأملاكه ، ووصف رقاب معارضيه الذين يعترف بنبل مقاصدهم إذا سكر بأنهم من الغوغاء ، فيتراجع عن وعوده الطيبة وكلماته الرحيمة ، ويتنكر لكل تصرفات سكره التي تمثل قناعته بما ينبغي أن تكون عليه الحقيقة التي ينكرها في صحوته !
يبحث " السيد بونتيلا " عن أولئك الندامى الذين إعتاد إستمالتهم بدعوتهم للشراب ، فيجدهم وقد تساقطوا من على كراسيهم ثمالى بمن فيهم قاضي المدينة وصاحب الكلمة الرسمية العليا فيها ، فيرى نفسه وحيدا لن يسمعه أحدهم وإن تحدث عن مغامراته ومشاريعه فلن يسمعه إلا ساقي الحانة ، ذلك الذي كثيرا ما استخدمه فسبر غوره وعرف أبعاده وثمنه ، فأنفت نفسه عن منادمته ، وفجأة يقبل تابعه " ماتي " بعد أن تركه السيد ينتظر في الخارج كثيرا ، يدخل وقد لسعه البرد والجوع ، فيقبل على بقايا مائدة السيد يتناول فتاتها مرغما مكرها ، ربما ناعيا حاله وما وصلت إليه وكيف أنه الأولى بالمكانة التي يرفل فيها سيده ، ومع ذلك ف " ماتي " لا يفارقه عقله البارد ومحاولته للظهور بمظهر الذكي المتزن ، أو السياسي المحنك ، عسى أن يمكنه ذلك من إقتناص فرصة تضمن له بعضا من الإنتعاش المحدود الذي لا يمكن لتفكيره الضعيف أن يصل إلى أبعد منه ، فيسعى لإختبار إنسانية سيده السكران ، فيحكي في إحتيال خائب وسذاجة بادية عن قصص الأشباح التي تظهر في ضيعة السيد وكيف أن رائحة اللحم المشوي كفيلة بإبعادها !!
ولكن السيد لم يكن أبدا بذلك الغباء ، حتى في حالات سكره الذي لم يمنعه من طرد ذلك العامل الإشتراكي الذي تجرأ وطالب بحقوق العمال ، فأذنه ترفض سماع ما لا يحب سماعه ، وهو يعلم جيدا ما يخطط له تابعه " ماتي " حتى وإن توقف طموحه عند قطعة من اللحم المشوي ، فيغير الموضوع بحرفنة من يجيد المراوغة ، ويحدثه مضطرا فلم يبق غيره نديما ، يحدثه عن خطاياه في حق أهل القرية ، وكيف أنه يتمنى أن يجعل من صديقه " ماتي " وكيلا عنه يرعى شؤون العاملين في المزرعة والقصر ، يحدثه عن طموحاته الخاصة ومشاكل جشعه المادي والمعنوي ، وكيف أنها تحتاج لتمويل لن يتحقق إلا باستغلال مزرعة القرية الكبرى التي منحته تلك الهالة الأسطورية وقصرها المنيف ، أو بالغرق في بحار الود والغرام مع تلك الشمطاء العجوز التي تطمع في تنوير المزرعة لتنتعش مزرعتها المقابلة على الطرف الأخر من القرية .
يصمت " ماتي " ولا ينصح سيده بشيء ، يتركه يواجه مصيره المحتوم عندما يثور أهل القرية ، إضافة إلى أن ما يقوله السيد يخرج عن نطاق إستيعابه الذهني وطموحه السياسي الذي توقف عند قطعة اللحم المشوي !فينهضان لمغادرة الحانة ، "ماتي " مرغما ، يحمل ذلك الفاقد الوعي القاضي السكران بخمر السيد ، وأمامه يمضي السيد مترنحا ثملا ، يرغمه على التوقف مرة بعد أخرى لسماع خططه عن المستقبل ، بينما " ماتي " يئن من وطأة ثقل القاضي على كتفه ، ويخشى الإعتراض على الحمولة أو التملل من سماع السيد ، وترتسم على وجهه علامات البلاهة ظانا أنه يمنع نصحه وخبراته السياسية عن سيده بونتيلا ، بينما الحقيقة أن منتهى تفكيره توقف عند حدود قطعة اللحم المشوي .
من المسرح العالمي : السيد بونتيلا وتابعه ماتي
بقلم : بدرالدين حسن علي
إنها رائعة الكاتب المسرحي الكبير برتولد بريخت ، والبعض ينطقها برتولد بريشت ، ولن نجعل من هذا معركة !فهي مسرحية التخرج في معهد الموسيقى والمسرح عام 1973بمشاركة زملائي من الطالبات والطلاب : نعمات عبدالرحيم صبحي ، الطيب المهدي ، عزالدين هلالي ، إبراهيم أحمد بخيت ، عبدالحفيظ محمداحمد ، سيداحمد الطاهر ، عبدالعظيم كباشي وعمر الطيب الدوش ، أحرزت الدرجة الأولى وكانت المسرحية قدمت على خشية مسرح الفنون الشعبية " دار المرشدات سابقا بأم درمان " .
إمتلأت القاعة عن آخرها ، وكان من بين الحضور إبن خالي عبدالله عثمان بابكر وصديقي الفاتح رحمة حيث قدما لي دعوة للسهر معهما والحديث عن المسرحية وعن برتولد بريخت والمسرح الملحمي .
لم أكن في ذلك الوقت قد زرت ألمانيا الديمقراطية ، ولا شاهدت البرلين إنسامبل ، ولكن قرأت عددا من مسرحيات بريخت مثل : بعل - طبول في الليل - إدوارد الثاني ملك إنكلترا - أوبرا الفروش الثلاثة - صعود وسقوط مدينة مهاجوني -حياة غاليليو - الإستثناء والقاعدة - الأم - دائرة الطباشير القوقازية وغيرها
إمتلأت قاعة المسرح بالجمهور والبعض ظل وقوفا ، كان ذلك أول عرض يسترشد بنظرية المسرح الملحمي مطبقا إرشادات برتولد بريخت ومسرح البرلين إنسامبل " المسرح الصغير " في برلين .
روعة وعظمة المسرحية في كونها لا تتحدث عن فكرة محورية ، ولا تتبنى أيدولوجية معينة ، وإنما تستمد مفهومها من الملاحم الشعبية التي يمكن أن نجدها في أي بقعة على ظهر الكوكب .
تتحدث المسرحية عن السيد بونتيلا المحاط بهالة من العظمة الأسطورية كأحد كبار الإقطاعيين في قريته ، هالة لا يهتم من أحاطوه بها بكونه أحد الظالمين الفسدة الذين يتناقض خطابهم بين قمة الفساد وقمة الإصلاح ، تماما كما يحدث اليوم في السودان / منتهى الفساد ولكنه بأمر الله ويقولون منتهى الإصلاح ، هذه المسرحية التي رأت النور في السبعينات لا يمكن.
أن تقدم اليوم .
روعة بريشت أنه جعل السيد بونتيلا عندما يشرب وتأخذه نشوة الخمر وتسكره تظهر إنسانيته ، فيكتشف فداحة الجرم الذي إرتكبه في مجتمعه فيقر بأنه رجل شديد السوء ، يحارب المباديء ويترصد أصحابها ، ثم يبكي ويتمنى أن تسقط الحواجز بينه وبين مجتمعه ، ثم يتوب ويتوب ، ويطلق تصريحا يحمل بين سطوره الأمل في التغيير ، ويتعهد فيه بلم شمل أهل القرية وتحقيق مطالبهم حتى يمكنه أن ينعم بينهم بحياة أكثر هناءا ، وأنه قرر التكاتف معهم بحكم موقعه لبناء غد اكثر إشراقا ، وعندما يفيق ويصحو من سكرته ينقلب إلى وحش حقيقي ، له مخالب الطبقة المستغلة وأنيابها ، وفيه قسوتها وخداعها ، إنه كائن عاد إلى أطماعه واستغلاله من جديد ، ونسي ما تعهد به وكأنه لم يكن ، وكأنه لم يسكر قط !!! الخمر في المسرحية رمز ؟؟؟؟
وبين سكر " السيد بونتيلا " وصحوته يظهر تناقض خطابه ، وتناقض الخمر واللبن ، وتضارب قراراته تضارب الليل والنهار ، وكأنما أخرج السكر حقيقته الكامنة ، وكشف ستر إحساسه الدفين بالذنب الذي يرتكبه في صحوته التي يحياها لحماية مصالحه وأملاكه ، ووصف رقاب معارضيه الذين يعترف بنبل مقاصدهم إذا سكر بأنهم من الغوغاء ، فيتراجع عن وعوده الطيبة وكلماته الرحيمة ، ويتنكر لكل تصرفات سكره التي تمثل قناعته بما ينبغي أن تكون عليه الحقيقة التي ينكرها في صحوته !
يبحث " السيد بونتيلا " عن أولئك الندامى الذين إعتاد إستمالتهم بدعوتهم للشراب ، فيجدهم وقد تساقطوا من على كراسيهم ثمالى بمن فيهم قاضي المدينة وصاحب الكلمة الرسمية العليا فيها ، فيرى نفسه وحيدا لن يسمعه أحدهم وإن تحدث عن مغامراته ومشاريعه فلن يسمعه إلا ساقي الحانة ، ذلك الذي كثيرا ما استخدمه فسبر غوره وعرف أبعاده وثمنه ، فأنفت نفسه عن منادمته ، وفجأة يقبل تابعه " ماتي " بعد أن تركه السيد ينتظر في الخارج كثيرا ، يدخل وقد لسعه البرد والجوع ، فيقبل على بقايا مائدة السيد يتناول فتاتها مرغما مكرها ، ربما ناعيا حاله وما وصلت إليه وكيف أنه الأولى بالمكانة التي يرفل فيها سيده ، ومع ذلك ف " ماتي " لا يفارقه عقله البارد ومحاولته للظهور بمظهر الذكي المتزن ، أو السياسي المحنك ، عسى أن يمكنه ذلك من إقتناص فرصة تضمن له بعضا من الإنتعاش المحدود الذي لا يمكن لتفكيره الضعيف أن يصل إلى أبعد منه ، فيسعى لإختبار إنسانية سيده السكران ، فيحكي في إحتيال خائب وسذاجة بادية عن قصص الأشباح التي تظهر في ضيعة السيد وكيف أن رائحة اللحم المشوي كفيلة بإبعادها !!
ولكن السيد لم يكن أبدا بذلك الغباء ، حتى في حالات سكره الذي لم يمنعه من طرد ذلك العامل الإشتراكي الذي تجرأ وطالب بحقوق العمال ، فأذنه ترفض سماع ما لا يحب سماعه ، وهو يعلم جيدا ما يخطط له تابعه " ماتي " حتى وإن توقف طموحه عند قطعة من اللحم المشوي ، فيغير الموضوع بحرفنة من يجيد المراوغة ، ويحدثه مضطرا فلم يبق غيره نديما ، يحدثه عن خطاياه في حق أهل القرية ، وكيف أنه يتمنى أن يجعل من صديقه " ماتي " وكيلا عنه يرعى شؤون العاملين في المزرعة والقصر ، يحدثه عن طموحاته الخاصة ومشاكل جشعه المادي والمعنوي ، وكيف أنها تحتاج لتمويل لن يتحقق إلا باستغلال مزرعة القرية الكبرى التي منحته تلك الهالة الأسطورية وقصرها المنيف ، أو بالغرق في بحار الود والغرام مع تلك الشمطاء العجوز التي تطمع في تنوير المزرعة لتنتعش مزرعتها المقابلة على الطرف الأخر من القرية .
يصمت " ماتي " ولا ينصح سيده بشيء ، يتركه يواجه مصيره المحتوم عندما يثور أهل القرية ، إضافة إلى أن ما يقوله السيد يخرج عن نطاق إستيعابه الذهني وطموحه السياسي الذي توقف عند قطعة اللحم المشوي !فينهضان لمغادرة الحانة ، "ماتي " مرغما ، يحمل ذلك الفاقد الوعي القاضي السكران بخمر السيد ، وأمامه يمضي السيد مترنحا ثملا ، يرغمه على التوقف مرة بعد أخرى لسماع خططه عن المستقبل ، بينما " ماتي " يئن من وطأة ثقل القاضي على كتفه ، ويخشى الإعتراض على الحمولة أو التملل من سماع السيد ، وترتسم على وجهه علامات البلاهة ظانا أنه يمنع نصحه وخبراته السياسية عن سيده بونتيلا ، بينما الحقيقة أن منتهى تفكيره توقف عند حدود قطعة اللحم المشوي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق