الثلاثاء، 17 نوفمبر 2015



في ذكرى رحيله المؤلم "2011-2015"

كمال شيبون الإنسان ،  القائد والمثقف
بقلم : بدرالدين حسن علي
             كعادة السنوات تجري " قال ليك تجري جري الوحوش غير رزقك ما تحوش " وها هي السنوات تجري منذ رحيله المفجع المؤلم في    16 نوفمبر 2011  ، أما زلت وحيدة يا أختي علوية البكري ، أنا أيضا أحس أني وحيد بعد فقداني للصديق الرائع الإنسان المبدع الفلتة كمال شيبون ، هذا الرجل يسكنني حيا وميتا ، ومنذ رحيله وإلى اليوم لم أجد مثله ، وحسنا فعل أخي وصديقي  الشاعر المرهف ابراهيم أبو ناجي فكتب عنه  ، وحسنا فعلت أخبار المدينة  فظل في ذاكرتها ، فمثل كمال لا يموت ، وتماما مثلما قال الكاتب المسرحي الكبير أنطون تشيخوف : سنذكرك يا كمال ولو بعد ألف عام ،  أكرر  التعازي للعزيزة علويه البكري الرفيقة المخلصة للراحل المقيم المهندس كمال اسماعيل شيبون ، والتعازي أيضا لشقيقه عبد المنعم ولجميع   أفراد الأسرة الكريمة في السودان وخارجه .  
 .                    لا جديد يمكن أن يقال عن كمال ،فقد سبق وأن أصدر سعيد شاهين صاحب ومؤسس "  أخبار المدينة "  عددا خاصا عن شيبون ،  طالعنا فيه مقالا كاربا كتبه شقيقه صلاح  وطالعنا فيه بكائية صادقة جدا كتبتها زوجته الرائعة علويه البكري ،  وكرمته الجالية السودانية في ال " سيتي هول "  في حفل مهيب القيت فيه كلمات في غاية الروعة وليس من مهام هذا المقال تقديم ملخص لما قيل رغم أهميته ، إلى جانب الدورة الرياضية المشهورة ،   ولكني سأتحدث عنه كما جاء في صدر المقال عن ثلاث خصال اجتمعن في كمال  " الإنسان ، القائد والمثقف " .

                     لكي أنعش ذاكرتكم   يوم الأربعاء 16 نوفمبر2011  فارقنا  الصديق الصدوق العزيز المهندس كمال إسماعيل شيبون  ،  القريب لقلوب جميع السودانيين في كندا ، فارقنا بعد معاناة قاسية مع مرض السرطان اللعين الذي داهمه على حين غرة وهو ما يزال في ريعان شبابه وقمة مجده وعطائه  ،  كان كمال شيبون أثناء مرضه بمرض السرطان يرسل لنا جميعا  رسالة بليغة لا تقبل القسمة على أثنين ، كان يرسل لنا رغبة ملحة في هزيمة السرطان ، وهذا أمر لا يمكن أن يدركه العامة ، بل هو أمر خاص بالخاصة ، فطوال فترة مرضه كان شيبون يقول لنا بالإمكان هزيمة حتى الموت بالإستعداد للرحيل وتهيئة الآخرين لتقبل الرحيل ، وبالفعل فقد هيئنا كمال لتقبل رحيله .
كمال الإنسان
              رحل كمال شيبون تاركا فراغا كبيرا في حياة كل السودانيين في كندا والسودان وفي الكثير من بقاع الدنيا ، رحل صاحب البسمة الناعمة والضحكة المجلجلة .. رحل سيد الحكمة والقلب الحنون .. رحل الذي قال للهدوء أنا الهدوء ، وقال للكمال أنا كمال  ، والكمال لله
 وحده  ،  قتلني رحيله المبكر كانما أنا الذي رحلت ويا ليتني رحلت قبله ، وقتل رحيله المئات وربما الآلاف من معارفه وأحبائه وأصدقائه الذين فاجاهم رحيله النبيل
                    رحل الذي قال للتسامح أنا التسامح وفارقنا في 16 نوفمبر وهو اليوم العالمي للتسامح .
                 كمال شيبون لم يكن في يوم من الأيام رئيسا لجمهورية السودان .. ولا كان وزيرا إتحاديا أو معتمدا أو محافظا ، ولم يكن رئيسا لحزب سياسي أو أي شيء من هذا
 القبيل ،  لم يكن صحفيا أو كاتبا أو شاعرا مشهورا  ،  كان حزبه هو السودان ، وقد عاش سودانيا ورحل سودانيا ومعتزا بسودانيته ، كان شخصا أكثر من عادي ، وهذا سر عظمته ،
يرحل الأب أو الأم وترحل الزوجة أو الشقيق والشقيقة ، و " نجعر " ونولول ونبكي بكاء
 مرا ،  وهذا من حقنا عندما يكون المصاب أليما ، ولكن يرحل أناس عاديون فيكون المصاب مفجعا أليما لا تجدي معه الدموع ولا البكاء ، هكذا كان رحيله ، بوسعي أن أكتب عنه أكثر من مقالة ، لأنه كان رجلا رائعا ،   كمال شيبون سبقنا إلى كندا بسنين كثيرة ، ولكن لم تبهره عمارات كندا أو الحياة المترفة فيها ، لازمته صفة واحدة فيها رئيس الجالية السودانية في أونتاريو ، أو بمعنى آخر رئيس الجالية في تورنتو ، ولو قدر لأي كان رِؤية مشهد تدافع السودانيين وغيرهم  ،  نساء ورجالا ،   إلى دار الجالية السودانية في شارع دانفورث الشهير يوم رحيله لأدرك أن هذا رحيل رجل عظيم ، وتشد من أزره إمرأة عظيمة هي علوية
البكري ،  ولو قدر لأي شخص رؤية تلك الفتاة الأثيوبية وهي توزع فناجين القهوة الحبشية في أحد أيام عزائه لعرف كم هو فقد عظيم ، ليس للسودان فقط بل لكل المحبين والنيرين  ، دعكم من هذا لماذا استمر العزاء لنحو خمسة أيام ؟ أعتذر لجميع رؤساء الجالية السودانية ، أعتذر للنور نادر وأقول له وفقك الله لخدمة الجالية في هذا الزمن الصعب ، اعتذر لمصطفى شلبي ولا اتصور أن يكون إسمك غير " المصطفى " فلك الشكر الجزيل على هدوئك وحنكتك ، فقد عبرت بنا رغم وعورة الطريق ، أعتذر للإنسان الخلوق الهاديء الحنين عمار عمر تاج الدين ، أعتذر لأستاذي القامة الرفيعة عبدالله عبيد المكتبة المتجولة والتاريخ الناصع ، أعتذر لك أسامة ميرغني فقد عرفتك وعركتك في الكويت وهنا في تورنتو ولم استغرب أن كل السلطنة  تشيد بك ، نموذج للسداني الأصيل ،  أعتذر لأختي آمال ميرغني المكلومة بفقدان أمجد فتضاعف حزني عليه وعلى كمال ، أعرف أن الفراق مؤلم يا آمال ، ولكن لن أنسى أبدا مواقفك الشهمة النبيلة وأنت ترأسين جاليتنا لسنوات
كمال القائد
                     يوم رحيله كنت أكبره بخمس سنوات ولكنه كان يستفزني بحنكته وحسن تصرفه وقدرته الفائقة في إدارة معركته ،  وكانت معركته التي جند لها كل إمكانياته وقدراته وحدة الجالية السودانية  في كندا ، من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق ومن أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب ، ويبدو أن المعركة ما تزال مستمرة ،  كم نحتاجك اليوم يا كمال !!!وما زلت أتمنى وأعشم أن تزول كل الخلافات وتكون الجالية السودانية متوحدة مترابطة لتحقيق
 الأهداف ، وأعتقد أن السودانيين في تورنتو وكندا فقدوا " القائد الذكي  المحنك "  
                       يا كمال وأنت في قبرك وبعد مضي هذه السنوات العجاف  دعني أقول لك نحن لسنا أغبياء ، فنحن نعرف جيدا قدرك ، ونحفظك في قلوبنا أبد الدهر .
                       عدة مرات إتصل بي كمال كي أرافقه لحل مشكلة ما ، فكنت أتهرب ، ولكنه يتمكن من حلها ببساطته المعهودة ، ولاحظت أنه لا يذكر الحادثة مطلقا ، وتلك من صفات القائد المحنك .
                    ودعوني أصدقكم القول ، أني لم أر في حياتي إنسانا يجيد فن الإستماع مثله  فهو مستمع بدرجة جيد جدا ، وفن الإستماع صفة يفتقدها أكثرنا ، ولكنها من صفات القائد ، يعامل الجميع بالتساوي وعندما يمر بي شريط ذكرياتي معه أتذكر الشريط الهندي " كلهم أولادي " .
                      .الموت حق وكل نفس ذائقته .. إلا أن وقوع الحدث باكرا مؤلم .. مفجع .. محزن جدا ، ولكن كمال ما يزال يعيش بيننا  .







كمال المثقف
                      بلا إدعاء أجوف طنان  كان مثقفا جدا ومتواضعا جدا ، كان لا يتعالى على أحد ، أستطيع أن أقول وبالفم المليان كمال اسمه الحقيقي " كمال البسيط " ، تناقشت معه كثيرا حول قضايا المسرح والسينما  ، وكان متحمسا للأثنين معا ، قال لي ذات مرة أنه يريد أن يحول دار الجالية إلى قاعة مسرحية وصالة سينمائية ، قطعنا شوطا لا بأس به في مجال المسرح ، بدأنا ذلك بمحاضرات مختصرة  عن فن المسرح : سودانيا وعربيا وإفريقيا وعالميا .
                  بدأ المشروع في بداية التسعينات من القرن الماضي  عندما كان مقر الجالية في شارع بلور ، كانت المحاضرة الأولى  عن المسرح والسينما السودانية بدعوة رقيقة تلقيتها من صديقي عادل الوسيلة باسم اتحاد الشباب السوداني ،  وكنت يومها مقيما في العاصمة اوتاوا  ، واغتنمها مناسبة لأعتذر بكل شجاعة للأخ العزيز صلاح النعيم والشاب الوجيه أمير زاهر وبقية الحضور  لعدم إكمال الجزء الثاني من المحاضرة للرد على  الأسئلة ، وهو فعل شائن وقبيح أرتكبه لأول مرة ، أغوتني دعوه كريمة من علوية وكمال  لزيارة دارهم العامرة ،  وكنت أدخلها للمرة الأولى في حياتي  ولم يسعفني خالي عبدالله عبيد ، بل شاركني في ارتكاب الجريمة ،  وربما عوضني عن الغواية ذلك الحوار الطويل مع كمال حول المسرح والسينما .
              إنتقلنا بعدها إلى تورنتو وانخرطت منذ الأيام الأولى للعمل في صحيفة " أخبار العرب الكندية " مع الصديق صلاح علام وما زلت إلى يومنا هذا محررا لصفحة "  بانوراما ثقافية " وأخرجت مسرحية " روميو وجوليت " بمشاركة كل من محمد هاشم سامحه الله ،  وجمال سعد الرجل الهميم  وتشجيع لن أنساه من آمال   ميرغني رئيسة الجالية حينها .
                       
                  كان كمال أول من تعرفت عليه في تورنتو بمبادرة منه لن أنساها له كل عمري ، كان كمال فنانا بحق وحقيقة ، "  لكن نقول شنو دنيا ما دوامه "  ،   دعاني كمال ثانية للحديث عن المسرحية وعن المسرح وكان يستمع لي بأدب شديد وأسئلة في غاية الذكاء  مما دعاني أن أقول لكريمتي " أنه مثقف جيد " .
               لم تنقطع حواراتي معه حول المسرح والسينما وتلك اللقاءات التي كانت تتم في دار عمار عمر وبحضور الصديق عبدالله نقد وبعدها الصديق محمد عبدالوهاب عباس ، أذكر يوما وأنا بجانبه قلت له  يقولون  أنك ترفض الجواز الكندي وأن دخلك الشهري محترم مع تأجيرك للدور الأرضي ، ضحك ضحكته المعهودة وقال :
لا تسأل الناس عن مالي وكثرته    وأسأل القوم ما مجدي وما أخلاقي
             كرمته في حياته منظمة البجا في تورنتو كما كرمتني وكرمت آمال ميرغني ،  وعندما صعد كمال خشبة المسرح إنهمرت دموعي وتذكرت قول  أبي فراس الحمداني"  وأذ للت دمعا من خلائقه الكبر"  ،ثم كانت الدورة الرياضية بعد وفاته بكل عنفوانها وشموخها .
                      وتتويجا لكل ما ذكرته عن المسرح والسينما  تم في حياته  تأسيس نادي السينما بدار الجالية في مقرها الحالي في شارع دانفورث ، وكان التأسيس بدعوة ذكية جدا وشجاعة جدا من كمال شيبون كرئيس للجالية السودانية ، وكان داعما اساسيا لجميع العروض السينمائية التي قدمها النادي مثل : ماسة الدماء تقديم عدنان زاهر ، " عطر " تقديم الفاتح المبارك ،  " قائمة سلة المهملات "  تقديم  محمد أبوسنينة ، ثم خطاب  الملك من تقديمي .

                     عرف كمال " مرضي المستوطن " بالقراءة  ، ولو كانت إمرأة لتزوجتها، ولأنه صاحب مكتبة معتبرة للكتب فله يعود الفضل لمعرفتي بالروائي علاء الأسواني عندما مدني بكمية كبيرة من الكتب من مكتبته العامرة ومن بينها روايات الأسواني : عمارة
 يعقوبيان ، شيكاغو ونيران صديقة تقاسمتها مع صديقي الآخر الحارث الحاج  ، ولم أسأل  زوجته الصابرة علويه البكري منذ رحيله الفاجع سوى سؤال واحد  : كيف حال مكتبته ؟ وسعدت كثيرا بالرد :  " في الحفظ والصون " وقفلت الخط بعد إنهيار دموعها الغاليات لأنني أخطأت فنبشت ذكرياتها معه ومع الكتب  ، واقول لها من كل قلبي لن ننساه و لن ننساك يا علويه ولن ننسى شموخك  و روعتك وسماحتك  .



                 هذا الملاك القادم من كادوقلي ، منسلا من بين أهل كادوقلي ليدفن هنا في تورنتو ويحرم أهل كادوقلي من تشييعه ودفنه ، كم  هو مر مرارة الموت الدفن  بعيدا عن الأهل والصحاب  والوطن !!!
              وأنا الآن أقول نعم رحل كمال شيبون ، ولكنه ذلك الرحيل النبيل ولتحيا أبدا يا صديقي في العقل والقلب الحزين  خلودا لا تمحاه السنين .

.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق