الأربعاء، 18 نوفمبر 2015


وليد ابو بكر كتب عن نور الشريف

عند الإعداد لفيلم ناجي العلي، جاء نور الشريف إلى الكويت، مع بشير الديك (السيناريو) وخيري بشارة (المخرج الذي لم يخرج الفيلم، وأخرجه عاطف الطيب)، وزاروا جريدة القبس، وخصوصا مكتب ناجي العلي، الذي شغلته بعد إبعاده، استنادا إلى العلاقة اليومية مع ناجي، منذ 1964، وحرصا على أن تبقى فيه روحه. وعرفناهم على الظروف التي عاشها الفنان الكبير، حنظلة فلسطين، وعلى الناس الذين احتك بهم، وعلى ظروف ترحيله أيضا، وعلى لحظات الرحيل ذاتها.
وبالرغم مما نال الفنان الكبير من هجوم بسبب الفيلم، كمعارضة فلسطينية رسمية أول الأمر، تحاورت حولها مع الزعيم الراحل (أبو عمار) في آب ، من العام 1988، في بغداد، بحضور الأخ أحمد عبد الرحمن والأخ عزام الأحمد والرفيق الراحل أبو فراس، وكثيرين آخرين، ثم كتطاول من الصحافة المصرية (نالني بعض منه، كما قال لي)، لأن العلي سبق أن رسم مبارك في كاريكاتير، إلا أن الراحل ظلّ يعتزّ بهذا الفيلم كثيرا، ويعتبره من أهم ما أنجز، وكان يحمل معه فيديو الفيلم ليهديه لأصدقائه، لأنه يعلم أنه حوصر. وقد نال الفيديو نجاحا وانتشارا أكثر من العروض السينمائية، لذلك امتلأت نسخ السوق بالإعلانات التي تقطع السياق. نسخة نور الشريف ــ دون إعلانات ــ وصلتني هدية منه قبل سنوات، ما زالت لديّ. حين شاهدتها، قبل فترة، قبل أن أودع جهاز الفيديو، حزنت كثيرا لأن ناجي العلي لم يستمع لنا يوم لقائه في بيتنا بأحد القادة، ولا ليلة سفره، حين قلنا له إنه ذاهب إلى لندن ليقتل. رحم الله ناجي العلي الرسام، وناجي العلي ـ بطل الفيلم، ورحمنا جميعا: أين كنا، وأين أصبحنا الآن؟


 
كتبت عن نور الشريف، إنسانا وفنانا، غير مرة، منذ العام 1966، في القاهرة والناس، حتى آخر ما كتبت، يوم جائزة القدس، أعيد التذكير به هنا:
 دفاتر الأيام

وليد أبو بكر
منذ أيامه الأولى في المعهد العالي للفنون المسرحية، لفت نور الشريف أنظار مدرسيه ومعارفه بثلاث صفات أساسية لم تتغير فيه حتى هذه اللحظة: موهبته الفطرية في التمثيل، وجديته في العمل، وانفتاحه الإنساني.
وعبر هذه الصفات التي تعمقت مع المعرفة والتجربة، استطاع هذا الفنان أن يسجل لاسمه مكانة رفيعة في عالم الفن العربي، إلى جانب أسماء حملت تلك الصفات، منذ عرف الفن المرئيّ الحديث طريقه إلى العين العربية.
هذه الصفات، وإن حافظت على أصالتها، تعمقت خلال السنوات، وصارت ملازمة لنور الشريف في عمله وعلاقاته ومواقفه الوطنية. ومن خلالها يمكن النظر إلى أعماله السينمائية، منذ دوره في فيلم (قصر الشوق)، وإلى أعماله التليفزيونية، منذ دوره في مسلسل (القاهرة والناس)، ثم إلى أعماله المسرحية، منذ ظهوره البسيط في مسرحية (الشوارع الخلفية).
سوف يكون من الصعب أن يلاحظ خروج حاد عن تلك الصفات. ورغم الفترات التي أغرت بعض الممثلين بالانسياق وراء ما هو تجاريّ، أو يتوافق مع الأوضاع العامة التي شهدت كثيرا من التهافت في بعض الأوقات، فقد التزم كليا بالكلمة التي قالها ذات مرّة: (مشروعات أفلامي غير متروكة للصدفة)، وهو ما ينسحب على كلّ أعماله بالطبع.
في تلك الفترات، حين شعر نور الشريف أن شيئا ما يسير في الاتجاه الخطأ، لم يتردد في التضحية، ولا في العمل على وقف ذلك. ومن أجل هذا الهدف، وتطبيقا لتوجهه العام، أنتج عددا من الأفلام التي أراد ألا تخضع للسوق التجارية. ورغم معرفته التامة بما كان يقدم عليه من مغامرة مادية، اختار المغامرة الفنية بوعي كامل، وحرّك عجلة السينما التي تحترم ذاتها، غير مرة، وهو ما يزال يفعل ذلك حتى الآن، عن طريق الإنتاج من ناحية، حين يستطيع، وعن طريق دعم العمل الذي يرى فيه خيرًا للسينما، بالتنازل عن جزء كبير من أجره، في حين يبالغ معظم فناني هذا الزمن في مضاعفة الأجور.
ولم يكتف نور الشريف بهذا الطريق في دعمه للفن، ولكنه ظلّ حريصا، منذ بدأ، على ضخّ دماء جديدة فيه، بترشيحه للمخرجين الشباب، وبدفعه للوجوه الجديدة إلى الأعمال التي يقوم ببطولتها، وهي وجوه تسير في معظمها على طريقه، وقد تجمعت حوله بالفعل، حين كرّمه مهرجان الإسكندرية السينمائي الأخير، الذي حمل اسمه، ما أثار فيه أحاسيس عميقة، لم يخجل، كفنان صادق، من التعبير عنها بالدموع، لأنها أشعرته بأن الجهد الذي بذله في هذا الاتجاه، لم يكن دون ثمار.
هذه الصفات التي ظلت جزءًا من طبيعته كفنان، انعكست على حياته كإنسان، سبق أن صرّح بأنه (مهموم بالإنسان بالفعل)، ولذلك اتسمت حياته بالصدق الحقيقي إلى جانب الصدق الفني، وبالاهتمام بالشأن العام، وبالموقف الوطنيّ الشجاع، الذي لا ينطلق من حماسة أو نزوة، ولكنه يورق داخل ثقافة واسعة، صنعها هذا الفنان من قراءاته المكثفة في كثير من المجالات، ومن علاقاته، وتأملاته، واتساع أفقه الذي لم يحصر اهتمامه في قضايا شخصية أو محلية وحسب، ولكنه عممه على القضايا العربية وقضايا الإنسان وحريته في كل مكان .
إن مواقف نور الشريف الوطنية والشجاعة لم يتم التعبير عنها في عدد كبير من أفلامه المهمة فقط، وإنما وصلت إلى وسائل الإعلام، بكل الطرق التي يصل إليها، فقد كتب وحاور وقابل وقوبل أكثر من أيّ نجم آخر، كما عرف عنه أنه لا يتأخر لحظة في التعبير عن موقفه تجاه أية قضية تخصّ الوطن العربي الكبير، الذي يعتبره وطنه، لأنه عندما يقدم فيلما لا يرضى بأن يكون موجها للجمهور المصريّ وحده، وإنما للعرب جميعا، (بهدف التقارب والفهم الأكثر نضجا).
ولأنه يضع قضية الوطن المحتل، قضية فلسطين، على رأس أولوياته السياسية، فإنه لا يتأخر عن أي دعم يستطيعه تجاه هذه القضية. وانطلاقا من هذا الموقف سبق أن رفض إغراء كبيرا بالشهرة العالمية والمال، حين شعر بأن في العرض يدا صهيونية. وانسجاما مع هذا الموقف أيضا، كتب بخط يده بيانات لإدانة الاحتلال، وتأييد للمقاومة الفلسطينية.
وهو من خلال ذلك يستمر في إقامة علاقات واسعة مع كل فلسطيني يتاح له أن يلتقي به، ليستمرّ في توجيه الأسئلة، وطرح الآراء، بحرص تام على أن تبقى القضية حية، وأن يستمرّ النضال من أجلها حتى تتحقق الآمال بتحرير القدس، التي يتطلع إلى تحقيق حلمه بأن يزورها، وهي في رعاية أصحابها، وأن يصلي في مسجدها الأقصى، لأنها تشكل جزءا من وجدانه، وهو يعتبر العمل من أجل تحريرها فرض عين.
والقدس، حين تقدّم له جائزتها، إنما تعترف له بكل جميل فيه، تجاه فنه، وإخلاصه العميق لقضايا وطنه، وعلى رأسها قضية القدس. ( )
أنت هنا: دنيا المسرح خواطر وليد ابو بكر كتب عن نور الشريف

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق