صفحات هامة من تاريخ المسرح السوداني
بقلم : بدرالدين حسن علي
سيكون جدلا عقيما إذا ما ظللنا نتعارك هل : نسميه المسرح في السودان ؟
أم نسميه المسرح السوداني ؟ سيكون مدعاة للضحك والسخرية وجدلا بيزنطيا
إذا ظللنا نقول ونردد أيهما أولا البيضة أم الدجاجة ، إلى متى نردد المثل
الشائع : عينك للفيل وتطعن في " ضلو " وبالمثل سيقى أمرا مضحكا أن تكون
معركتنا : متى بدأ المسرح في السودان ؟ في قديم الزمان أم في الثلاثينات
من القرن الماضي ؟ نحن نحب الماضي لأنه ذهب، ولو عاد لكرهناه
درست على مدى سبع سنوات ضمن ما درست مادة النقد المسرحي بالتركيز على
كتاب المسرح السودانيين والعرب والإفارقة وكتاب المسرح العالمي منذ جدنا
الكبير الإغريقي سوفوكليس إلى أصغر كاتب في عام 2017 ، ، قرأت الكثير
جدا من الكتب المسرحية والمقالات في شتى المجالات المسرحية ، قرأت الكثير
جدا من المسرحيات من جميع الثقافات المسرحية في العالم ، قرأت وقرأت ولكن
إهتمامي بالمسرح السوداني لم يتوقف إطلاقا ، قمت بتدريس فن وتاريخ
المسرح في السودان وعدد من البلدان العربية ، أنشأت الكثير من الفرق
المسرحية كان الشرط الوحيد الذي أطرحه : مسرح جاد ، وهي مقولة في باطنها
الكثير المثير .
إن جميع العاملين في المشهد المسرحي السوداني يعانون ، كما عانى
أساتذتنا القدامى والكبار أمثال الفاضل سعيد ، الجعفري ، عثمان أحمد
حمد ، إسماعيل خورشيد محمود سراج، أبو العباس محمد طاهر ولكل شيخ
طريقته ، الفكي
عبد الرحمن ، مكي سنادة ، صلاح تركاب ، حسن عبد المجيد ،
عثمان قمر الأنبياء ، عثمان جعفر النصيري ، يوسف خليل ، يوسف عايدابي ،
حمدنالله عبدالقادر ، هاشم صديق ، عوض صديق ،عبدالهادي الصديق ، محمد
رضا حسين ، آسيا عبدالماجد ، فتحية
محمداحمد ، تحية زروق ، نعمات حماد ،
بلقيس عوض ، منى عبدالرحيم وجيش جرار من الصعب ذكرهم جميعا فأرجو
المعذرة ، ومع ذلك يتمسرحون ويضحكون ويشخصون ويسخرون ، وبدأت الحياة
تعود قليلا إلى المسرح السوداني رغم الظروف الصعبة التي يعيشها أهل
المسرح ، بل حقيقة التي يعيشها الشعب السوداني .
في غمرة هذه الظروف الصعبة شاهدت عددا من المسرحيات السودانية ، وقرأت
للجيل الجديد من المسرحيين دون أن يصيبني أي شكل من أشكال الملل أو
الغضب
، كما شاهدت مسرحية " النظام يريد تغيير الشعب " وهو الإسم الذي طالب
به الجهاز الأمني ، حيث لا يخفى عليكم أن الإسم هو " الشعب يريد إسقاط
النظام " عرض مسرحي يحكي الواقع السوداني ، ويسلط الضوء على الأوضاع
السياسية التي تشهدها الساحة السودانية في إطار ساخر ! وتشكل المسرحية
عودة الحراك المسرحي وتفاعله مع القضايا
السياسية ، وتذكرت تلك
التغييرات التي كان يطالب بها جهاز الرقابة في السودان وخاصة سنوات جعفر
نميري على مسرحيات مثل : حكاية تحت الشمس السخنة ، المشي على الرموش ،
نبته حبيبتي ، الزوبعة ،حصار الخرطوم وحتى مسرحية الفاضل سعيد " أكل عبش
" لم تسلم من ذلك .
شاهدت المسرحية فضحكت من كل قلبي ، ليس فرحا وسرورا وإنما تذكرت ذلك
التاريخ الرائع العظيم للمسرح السوداني في ستينات و سبعينات القرن الماضي،
وقرأت الكثير من المقالات النقدية عن المسرحية وسررت لعودة الجمهور
السوداني للمسرح ، فرحت نعم ، ولكن حزنت كثيرا للأوضاع المؤلمة التي
يعيشها كبار فطاحلة المسرح أمثال مكي سناده ، ابراهيم حجازي ، صالح
ألأمين أحمد ، صلاح
تركاب ، محمد شريف
علي ، تحيه زروق ، وقائمة طويلة من
أبرز الفنانين المسرحيين السودانيين ،لا أحد ينكر عدد المسارح التي بنيت
ولكنه يعشعش فيها الطير ويسكنها البوم ، أفلأجل هذا صرفت عليها تلك
الأموال الطائلة ، الوضع مأساوي بمعنى الكلمة ، والمسرحيون يقولون نصف
الحقيقة ، فجهاز الأمن يراقب حتى الذباب في حركته وبحثه عن قطعة سكر في
زمن إختفت فيه سلعة
السكر ، وأصبح السكر قاصرا على أصحاب البنايات
الشاهقة .
نحن نمشي في جنازة المطر
كثيرة هي المسرحيات السودانية التي منعت من العرض بدءا من ” المشي على
الرموش ” للفنان المسرحي السينمائي ابراهيم شداد ، ” مرورا بمسرحية ”
نبته حبيبتي ” للكاتب المسرحي الممثل الشاعر هاشم صديق وليس أخيرا مسرحية
” حكاية تحت الشمس السخنة ” للكاتب المسرحي الروائي الفنان التشكيلي صلاح
حسن أحمد ، إلى جانب مسرحيات واجهت بعض المصاعب مع الأجهزة الأمنية خاصة
للفترة من ” 1969-1985″ وهي الفترة التي حكم فيها جعفر نميري السودان ،
ومن المدهش أن هناك نصوص مسرحية أجازتها لجان النصوص بالمسرح القومي بأم
درمان ولكن لم تعرض على خشبته ، والمجال يضيق لذكرها جميعا .
من المسرحيات الشهيرة التي لم يشاهدها الجمهور السوداني مسرحية ” نحن
نمشي في جنازة المطر ” للكاتب المسرحي الشاعر عمر الطيب الدوش ، وعلى ما
أظن أن نص المسرحية مفقود ولكن مقتطفات من المسرحية ما تزال مع الناقد
صلاح العالم أحد أصدقاء عمر الطيب الدوش ، ولعل نبتة حبيبتي وجدت حظها من
النشر عنوة واقتدارا بجهود كاتبها، الأمر الذي يجعلها في متناول يد
الباحثين والنقاد ” مسرحية " نحن نمشي في جنازة المطر ” عرضت سرا على
مسرح الفنون الشعبية بأم درمن وحضر العرض عدد كبير من عشاق المسرح مما
عوض عن عرضها سرا وهو قطعا قرار خاطيء تماما وكشف عن غباء الجهاز الأمني
وما يكنه من عداء للمسرح ، وقد صدقت نبوءة المسرحي الشاعر نجيب سرور الذي
قال يوما ” أرني المسرح في أي بلد أقول لك نوع النظام فيه ” وحاليا الأمر
لا يختلف بل أسوأ
من مسرحية “نحن نمشي في جنازة المطر “
عمر الطيب الدوش
هذا أنا
أبن المجاعات المررن على البلاد
سرقتني الأفكار من حضن أبي
تحرقني أرصفة المدينة كأنني جريدة مصادرة
وفي العمارات الكبيرة.. ذات المراوح الكثيرة
والأبهة السادرة
أفتش الرزق والتاريخ والبنات الضائعات
ولست حاذقا في هذا.. ولا أدعي فيه المهارة
وقبل أن تصفعني المشاكل المهاجرة
جاءتني ذات يوم لا أذكر أي يوم
حبيبتي ذات العيون المصفقة
تسألني عن ثمن العشاء في إحدى الفنادق
حدثتها أن تسألني عن ثمن البنادق
رأيت في عيونها.. إنني راكبا حصاني
مفصد الجبين يغلني الريح والمطر
وحين حدثتني عن الموت والخطر
أقتدتها قسرا إلى غرفتي الكئيبة
ضاجعت دهشتها الحزينة المريبة
وقلت لها بالشفاه المطبقة
صدقيني يا قبل أن تصفعني المشاكل المهاجرة
لم أكن هكذا لكنني أصبحت
لم أكن هكذا لكنني أصبحت
لم أكن هكذا لكنني أصبحت !!
ياذات العيون المصفقة
.
.
عثمان جعفر النصيري ذكي جدا و "نضام " ومثقف جدا وموهوب جدا ، وقد شاهدت
له عددا من المسرحيات التي أخرجها على أيام المسرح الجامعي بجامعة
الخرطوم أذكر منها على سبيل المثال " العجكو " ، مارا صاد للكاتب
الألماني السويدي بيتر فايس ، والتي قدمها في ذات يوم من الأيام من على
خشبة المسرح القومي بأم درمان ، كما تشرفت للعمل معه كمساعد مخرج في بعض
المسرحيات أذكر منها مسرحية " مجلس تأديب " من تأليفه وإخراجه ، ومسرحية
" مأساة الحلاج " للشاعر المصري الكبير صلاح عبدالصبور .
كان الفكي عبدالرحمن دائم الحديث عن النصيري ، وعندما نجلس سوية لتناول
طعام الغذاء يكون موضوع " الونسة " النصيري ، وعندما عرف أنني أحبه قال
لي " إنت في السليم " ، ولكن النصيري وسلمى تركا السودان إلى لندن - وهو
موضوع طويل ليس هذا مكانه – المهم تخرج النصيري في كلية East 15 للمسرح
وحاول أيضا أن يلحقني بنفس الكلية ولكن ظروفي الأسرية لم تسمح بذلك .
عثمان جعفر النصيري حصل على الدكتوراة عن جدارة وأصبحت كريمته عازة قامة
سودانية يشار إليها بالبنان في عموم بريطانيا ، وله أفضال كثيرة على
المسرح السوداني منذ كتابه التوثيقي الأول " المسرح في السودان 1905
-1915 " وحركته الدؤوبة في بريطانيا ومن بينها إخراجه لمسرحية " محمود "
عن شهيد القرن الماضي محمود محمد طه ، وقد أرسل لي " مشكورا " شريط فيديو
يحتوي على المسرحية ، واستمتعت بمشاهدتها ومشاهدة أصدقائي الممثلين .
إن أكبر مصيبة حلت بالمسرح السوداني - رغم أنه كان طفلا يحبو - التدخل
المريع لأجهزة الأمن في نشاطه ، وتفسيراتهم " الهبلة " لمضامين مسرحيات
تلك الفترة ، وحملة الفصل والتشريد ، والإتهامات الإعتباطية والتصنيف
السياسي البليد ،وخطابات ما يسمى بالصالح العام وهي خطابات في غاية
الرعونة والسخف ، إذ لم تمر إلا سنوات قليلة مثلا على نشاط المسرح
القومي بأم درمان عام 1967 وبدأت حملة فصل هوجاء وقبيحة كان ضحيتها كاتب
هذه السطور، سلسلة من الكذب الفاضح مثل أنني عضو لجنة مركزية للحزب
الشيوعي ، رئيس مكتب الشباب للحزب ، والخطاب بتوقيع وزير دولة للإعلام
وهو بونا ملوال ، لم أنس أن آخذ الخطاب " الفضيحة " لكمال الجزولي
ليهنئني فضجك حتى وقع من كرسيه ، وعدد لا يستهان به من المبدعين
المسرحيين والذي أدى لاحقا إلى هجرة الكثيرين إلى دول الخليج العربية ،
فقط للنجاة من سطوة الأجهزة الأمنية ، وفقد المسرح قامات كان يمكن أن
تضيء طريق المسرح بمصابيح لا تنطفيء مطلقا ، أسماء مثل عثمان جعفر
النصيري ،
يوسف خليل ، هاشم صديق ، يحي الحاج ، صلاح تركاب ، يوسف عايدابي ،عمر
براق " نحن نفعل هذا ...أتعرفون لماذا ؟ " ومحاصرته سياسيا ثم هجرته ،
محجوب عباس " السود " ، عبدالرحيم الشبلي " أحلام جبرة " ، علي
عبدالقيوم ، " حفل سمر لأجل 5 حزيران " شوقي عزالدين ، ابراهيم شداد ،
محمد رضا حسين ، عزالدين هلالي ، عثمان قمر الأنبياء ، وحتى أجانب مثل
المخرج الفرنسي باتريس ماري الذي تزوج الفنانة والممثلة الرائعة تحية
زروق وأنجب منها أبنتها الوحيدة شيراز المقيمة حاليا في أمريكا بينما
باتريس يتنقل بين فرنسا وكندا وأمريكا ، وقائمة تطول وتطول من أبرز
الفنانين
يوسف خليل هو الرقم الصعب في تاريخ المسرح السوداني ، فإلى جانب سودنته
الخرافية لمسرحية الزوبعة كتب الخضر وجوابات فرح ، وكلاهما تعرضتا لهجمة
مسعورة من جهاز الأمن ، ومضايقات كثيرة جدا تمثلت في المطالبات التي لا
تنتهي بالحذف والتعديل وتصنيفه كعدو لتورة مايو !! المسرحيتان ا من
إخراج المبدع صلاح تركاب ، يوسف لم يستطع التعايش مع كلاب الأمن وهو صاحب
أجمل بسمة شاهدتها في حياتي ، فهرب من وحوش أم درمان إلى أبناء خورفكان
بالإمارات فاحترموه وأطلقوا عليه الأستاذ ، أما صلاح تركاب فقد لحق به
ولكنه لم يستطع التعايش مع أبناء الخليج فعاد إلى وطنه ، وكان فنانا
قديرا في الإخراج وفن الديكور .
.
ويوسف له أيضا مسرحية اسمها على ما أظن " الغول والغريب " وفعلا كانت
غولا ، إلى جانب سودنته الرائعة لمسرحية الكاتب والشاعر الإسباني
فيديركو غارسيا لوركا " بيت بيرناندا إلبا " وكانت بإسم " بيت بت المنى
بت مساعد ، زارني في الكويت وقضى معي ثلاثة أيام كانت من أحلى أيام حياتي
، فغضبت مني زوجتي الراحلة المخرجة السينمائية حوريه حسن حاكم لوجودها في
قاهرة المعز ، ويوسف له فضل كبير علي لأنه فتح لي الطريق لمعرفة أثنين
من عمالقة المسرح العربي والإسباتي وأعني بهما محمود دياب
ولوركا ، لدرجة أني إنزويت في مكتبة خالي الراحل المقيم الفكي عبد
الرحمن وقرأت جميع أعمالهما باللغة العربية .
الحديث يطول ويطول
ولكن !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق