مسرح الأمس...مسرح اليوم
بمناسبة مرور أربعين عاما على المسرح الحديث في السودان
ذكريات لا تنسى (3)
بدر الدين حسن علي
تورنتو
في عام 1967 وكنت ما أزال طالباً في الثانوي العالي بمدرسة الأهلية الثانوية بأمدرمان، جمعتني عدة جلسات فنية مع خالي الأستاذ الفنان الكبير الراحل المقيم الفكي عبد الرحمن، كان يقول لي "يا بني مستقبلك في المسرح"، وكان وقتها قد "سلفني" مجموعة كبيرة من الكتب المسرحية اشترط علي إعادتها حالما أنتهي من قراءتها، ولكني كنت سيئاً جداً في إعادة الكتب لأصحابها، ولازمتني هذه الخصلة السيئة طوال حياتي المهنية، إلى أن جاء اليوم الذي دفعت فيه ثمن تلك الضريبة بأن قام أخواني وأصدقائي بالسطو على جميع كتبي المسرحية وغيرها، وإذا بي أجد مكتبتي فارغة تماماً من الكتب ما عدا بعض الكتب الصفراء التي كنت أزين بها مكتبتي ولم تغرني في أي يوم من الأيام بمطالعتها.
في العام 1968 أكملت المرحلة الثانوية العليا، وتم قبولي بجامعة القاهرة الفرع، وكان السبب الرئيسي في ذلك نبوغي الفني المبكر، علماً بأنني كنت أحصد درجات عالية في مادة "الحساب"، ووجدت نفسي كارهاً للجامعة ودراساتها، وكان من الطبيعي أن أتوجه إلى خالي الفكي عبد الرحمن طالباً منه أن يساعدني في العمل بالمسرح القومي، ولدهشتي الكبيرة وافق خالي مباشرة وطلب مني أن أحضر إلى مكتبه في اليوم التالي.
وكان اليوم التالي علامة فارقة في كل حياتي، وما يزال، فقد تحول حبي وعشقي للمسرح من مجرد علاقة عاطفية وجدانية وهوىً مجنون بالكتب وبشكسبير وبريخت وهنريك إبسن وكورني وراسين وموليير والبير كامو وغيرهم من الكتاب والفنانين المسرحيين، إلى واقع ملموس. فقد تم تعييني على بند المرحوم الشريف الهندي بالمسرح القومي بأمدرمان وإذا بالفكي يدفعني دفعا إلى المزيد من مطالعة الكتب فيسند لي مسؤولية المكتبة، وكانت من إغراءاته لي الالتحاق بمعهد الموسيقى والمسرح دون أن أفقد وظيفتي في المسرح وأيضاً الحصول على بعثة دراسية عن المسرح في إحدى الدول الأوروبية، وقد تحقق الإغراء الأول بينما فشل التخطيط الثاني فشلا ذريعاً بسبب العداء الشديد الذي كان بيني وبين الجهاز الأمني الإستخباراتي.
تواصلت التحضيرات والاستعدادات لبداية المواسم المسرحية بالمسرح القومي بأمدرمان، وبتشجيع من خالي الفكي عبد الرحمن، وبما توفر لي من ثقافة مسرحية جعلتني محاوراً صعباً للفكي عبد الرحمن ذات نفسه عندما يطرح موضوعاً للنقاش. كان الفكي ديموقراطياً، بل مدرسة في حرية الرأي والتعبير، وصراحة أقول لقد علمني الفكي فأحسن تعليمي.
خلال هذه الفترة تعرفت على عثمان جعفر النصيري، وكان قد تخرج لتوه في جامعة الخرطوم والتحق بالعمل بالمسرح القومي بأم درمان لنشاطه المعروف في المسرح الجامعي. كان النصيري يكبرني بعدة سنوات، ولكنه فرض علي احترامه لذكائه الشديد، وسرعان ما أصبحت متأثراً به تأثيراً شديداً. كان يزورني في مكتبي وأنا مسؤول مكتبة المسرح القومي التي كانت في بدايتها، كان يقضي معي فترات طويلة كان لها أكبر الأثر في تحولي الكبير من مجرد شخص عادي إلى شخص آخر.
أحببته كثيراً، بجسمه النحيف وعينيه الواسعتين وأنف سيرانو دي بيرجراك، وأصبحت أزوره في بيته، ومنه تعلمت الكثير، تعلمت الكثير جداً وما زال الود بيني وبينه قائماً!
اغتنمت مسؤوليتي عن المكتبة، فعرضت بعض الأفكار على الأستاذ الفكي عبد الرحمن على تطويرها، وكعادته لم يبخل، فقد وافق على كل ما عرضت، وبالطبع استعنت بصديقي وأستاذي النصيري، فقمنا بشراء كمية محترمة من الكتب المسرحية وغيرها من عدد كبير من المكتبات أذكر في مقدمتها مكتبة القدال.
هذا النشاط أوجد نوع من الاحترام بيني وبين بقية الزملاء في المسرح القومي فبادرت إلى إبداء رغبتي لأستاذي الفكي عبد الرحمن بأن أنتقل إلى مجال آخر.
وفوجئت به أيضا يوافق وينقلني إلى وظيفة مدير خشبة. لم تكن الوظيفة غريبة علي، بل كنت أفهم كل ما يحيط بها من نظريات ومهام ومسؤوليات وكنت محظوظاً جداً بأن اختارني صديقي وأستاذي عثمان جعفر النصيري لكي أكون مدير خشبة لأول عمل مسرحي له ومن تأليفه وإخراجه، فكانت مسرحية "مجلس تأديب". وتعرفت أيضاً على الراحل المقيم الشاعر علي عبد القيوم، وساعدت في إخراج مسرحية حفل سمر لأجل خمسة حزيران، وكان له أثر كبير في تشكيل رؤيتي المسرحية والسينمائية. كما تعرفت على د. خالد المبارك، وكان هناك خالي الآخر عبد الرحيم الشبلي الذي كتب مسرحيته الشهيرة "أحلام جبرة". وتعرفت أيضاً على أساتذة آخرين أمثال إبراهيم شداد، والذي تشرفت بالعمل معه في مسرحيته "المشي على الرموش"، والأستاذ الراحل المقيم عوض محمد عوض، وعملت معه في المسرحية الشهيرة "الزوبعة". كما تعرفت على فنانين مسرحيين آخرين سيأتي ذكرهم في حلقات قادمة، أمثال الراحل المقيم محمد رضا حسين، تحية زروق، فتحية محمد أحمد، نادية بابكر، الريح عبد القادر، محمد شريف، إسماعيل طه وقائمة تطول من الأسماء اللامعة.
إلا أن أهم محطة في حياتي المسرحية هي العلاقة التي نشأت بيني وبين الشاعر والكاتب والناقد والممثل هاشم صديق، وما زالت هذه العلاقة ومنذ الستينات قائمة إلى الآن، والواقع أنني افتقدته كثيراً في سنوات الغربة الممتدة من السبعينات وإلى اليوم، ولم يغب عن خاطري أبداً، ولذا سأحكي عنه وعن بعض التفاصيل الهامة لاحقاً.
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق