النصيري و شوقي عزالدين وشوقي للمسرح
بقلم : بدرالدين حسن علي
وهؤلاء من فرسان المسرح السوداني وأيضا فرسان التلفزيون و السينما السودانية ، ظلوا دائما منذ نعومة أظافرهم خلف الكواليس وفي مقدمة المسرح " كلام مفيد حركة جد " ، إنهما د.عثمان جعفر النصيري و شوقي عز الدِّين الأمين، عاشق الخشبة، ونجم "المسرح الجَّامعي" خلال أواخر السِّتينات وأوائل السَّبعينات كما قال صديقه الودود كمال الجزولي ،والذي أشكره كثيرا لأنه ينعش ذاكرتنا بكتابته الرصينة عن المسرح السوداني ، فقد كتب مقالا كاربا مؤخرا خصص الجزء الكبير منه للشاب الظريف شوقي عزالدين . زارني هو وزوجته بثينة امير في تورنتو وكان مقيما مع عبدالرؤوف
الإلكتروني ً، أتى من مقرِّ عمله وإقامته بمسقط ، يحلو لي أن أناديه يا
" ابوسفنجة "
ولا أدري إن كان قد تركها في مدينة قابوس الفاضلة
شوقي من جيل المسرحيين الأفذاذ الذين بنوا أعمدة "المسرح الجَّامعي
"،وخرج المسرح السوداني من معطفهم !!!!!
مدينة رفاعة التاريخية قدمت الكثير جدا من الشخصيات البارزة في جميع المجالات مما يصعب ذكرهم "بابكر بدري مثلا " ولكن يهمني من ذلك الأستاذ الدكتور عثمان جعفر النصيري والأستاذ الدكتور يوسف عايدابي، كلاهما أعطى للمسرح السوداني الكثير وكلاهما إفتقدهما المسرح وافتقد ذلك العطاء الراقي الأخاذ ، الأول هاجر إلى بريطانيا وكنا نتوقع هجرة قصيرة يعود بعدها لمواصلة ذلك العطاء ولكن سنوات الغربة طالت ، والثاني أيضا هاجر من السودان إلى إمارة الشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة ، وكنا أيضا نظنها هجرة قصيرة يعود بعدها لمواصلة ذلك العطاء المخلص للمسرح
السوداني ، ولكن سنوات الغربة طالت على الرغم من تفوقهما في المجال الثقافي المسرحي في بلاد الغربة .
أبدأ بدعوتكم لمطالعة ما سطره يراع صديقي الكاتب الصحفي اللامع جعفر عباس عن الفنان المسرحي عثمان جعفر النصيري :
يقول جعفر : كان العمل في تلفزيون بي بي سي ممتعا، لأن غالبية العاملين فيه كانوا من العرب،يقول النصيري : وحتى البريطانيون الذين كانوا يعملون معنا، كانوا من الذين سبق لهم العمل في بلدان عربية، وإلمامهم باللغة العربية يتراوح ما بين «مقبول» و«جيد، ومن غرائب الصدف أن جميع الخواجات الذين عملوا معنا في بي بي سي - ما عدا اثنين - عملوا بالتدريس في السودان، وكان أربعة منهم قد غادروا السودان قبل التحاقهم بهيئة بي بي سي بفترة قصيرة ، وهم عادة خريجو أعرق الجامعات البريطانية - وبالتحديد أوكسفورد وكيمبردج - ويتطوعون للعمل في دول العالم الثالث حينا من الزمان لينالوا درجاتهم الجامعية العالية، أي أنهم كانوا ملزمين بالتطوع، ولم تكن حكومات البلدان التي يعملون بها ملزمة بمنحهم رواتب معلومة بل فقط «بدل طعام» مع توفير المسكن، ولا يوجد بين أبناء وبنات جيلي من لم يدرس الإنجليزية على أيدي مدرسين بريطانيين، بل حتى بعد إكمالي دراستي الجامعية والتحاقي بالتدريس كان هناك مدرس بريطاني واحد في كل مدرسة ثانوية في السودان.
يقول حعفر عباس :
كان معي بعض العرب ، وكان كبيرنا هو عثمان جعفر النصيري، كان كبيرنا عمرا وعقلا وفهما ووعيا، وكان النصيري يسبقنا بعامين أو ثلاثة في جامعة الخرطوم، حيث درس فيها القانون، مع أنه ظل خارج القانون ومرتاد سجون منذ أن دخل المدرسة الثانوية، فقد كان شيوعيا على السكين، وكانت له صولات وجولات خلال الندوات الجامعية مع علي عثمان طه طالب القانون مثله، وحتى بعد أن نال البكالوريوس وترك الحزب الشيوعي واصل النصيري خروجه على القانون ، أعني أنه لم يمارس القانون الذي درسه قط لا جالسا ولا واقفا، بل كرس كل وقته وجهده للمسرح، وأستطيع ان أقول بضمير مستريح أنه، ومن بعده الشاعر الراحل علي عبد القيوم، من رسخ قوائم المسرح الجامعي، وبعد أن عمل في المسرح القومي السوداني فترة قصيرة سافر الى بريطانيا لدراسة المسرح، وعاش سنوات تبهدل فيها وبهدل فيها زميلتي في كلية الآداب جامعة الخرطوم، سلمى بابكر الريح، التي تزوج بها.. كان بإمكان النصيري أن يعيش عالة على دافع الضرائب البريطاني كما يفعل الكثيرون، أي أن يتقاضى راتبا معلوما من هيئة الضمان الاجتماعي، ولكنه آثر أن يعيش من عرق جبينه، ومارس مهنا يترفع عنها حتى الأميون الذين نالوا حق الإقامة في بريطانيا بالأوانطة، بزعم أنهم مضطهدون سياسيا ، لم يقل أنا جامعي وعندي ماجستير ومثقف وأتقن الإنجليزية أفضل ممن ولدوا ناطقين بها، ولن أقبل إلا بوظيفة تليق بخبراتي وقدراتي
كما يتعلل بعض الذين أدمنوا البطالة
ويختم جعفر عباس قائلا : والنصيري أقرع ونزهي، فرغم أنه عاش سنواته الأولى في بريطانيا على الكفاف، فإنه أسس دارا للبحوث والنشر وأصدر كتبا ذات قيمة تاريخية وتوثيقية عالية، وكانت الدار عبارة عن تربيزة (طاولة) في ركن في بيته، وإلى يومنا هذا مازال النصيري مشغولا بأمور التوثيق والثقافة، وعاد الى السودان مرتين بنية الاستقرار فيه نهائيا، ولكنه وجد في المرتين من الصدّ والعراقيل ما جعله يفكر في الاستقرار في بريطانيا نهائيا، ولم يطالب بمنحه جواز السفر البريطاني إلا بعد قرابة عشرين سنة من إقامته في بريطانيا، مع أنه كان يستحقه منذ سبعينيات القرن الماضي.
بعد هذه المقدمة الشيقة سأدخل في الموضوع بدون فذلكة تاريخية رغم أهميتها ، في يوم من تلك الأيام الجميلة وتحديدا في أوائل السبعينات من القرن الماضي وبعد مناقشة ساخنة مع الراحل المقيم الفكي عبدالرحمن وكان يومها مدير المسرح القومي بأم درمان ، أعربت له عن رغبتي في الإنضمام إلى أسرة المسرح ، أبدى موافقته الكاملة على ذلك ، وفي اليوم التالي أنهى إجراءات تعييني موظفا في المسرح القومي بأم درمان . والذي تم في نفس يوم تعيين صديقيّ اللدودين صلاح الفاضل ومحمد شريف علي ، الأول وصل مدير إذاعة أم درمان والثاني مدير المسرح القومي .
كنت في تلك الفترة أقرأ أكثر من كتاب في اليوم الواحد عن المسرح ، لدرجة أن والدتي - الله برحمها - كانت عندما تخاطبني تقول لي : أسمع يا مسرحنجي إنت !!!!
ويبدو أنني كنت محظوظا ، فمنذ الأيام الأولى لي في "الحوش" - الإذاعة والتلفزيون والمسرح - تعرفت على شخصيات هامة ولكن سأحدثكم عن الشخصيات التي تعرفت عليها في المسرح مثل : عثمان جعفر النصيري ،
انا لا أكتب سيرة ذاتية لشوقي عزالدين ولا لعثمان جعفر النصيري وإلا لكتبت عن الجبهة الديموقراطية بجامعة الخرطوم والمسرح الجامعي وأباداماك ، وإنما أكتب عن أهمية النصيري للمسرح السوداني ، فالنصيري كاتب مسرحي ومخرج جيد ، ومحاور ومنظر بارع جدا ، لماح ، قلب كبير ونادرا ما تجده غاضبا ، تقرأ في عينيه الكبيرتين خريطة الوطن كلها ، بمعنى آخر إنسان مفيد جدا ، وكان يمكن أن يكون مفيدا للمسرح لو استقر به المقام في السودان بعد التحصيل الدراسي ، وقد عايشت عن قرب تجربته للتوثيق للمسرح السوداني من خلال كتابه صغير الحجم كثير الفائدة "
المسرح في السودان
"1905- 1915 " وكتابات ومقالات أخرى .
ومن الصعب أن يذكر النصيري من دون ذكر سلمى بابكر الريح ، وهي أيضا ممثلة غير عادية ولكنها فارقت المسرح منذ إنتهاء تجربة المسرح الجامعي ،
عثمان جعفر النصيري ذكي جدا و "نضام " ومثقف جدا وموهوب جدا ، وقد شاهدت له عددا من المسرحيات التي أخرجها على أيام المسرح الجامعي بجامعة الخرطوم أذكر منها وعلى سبيل المثال العجكو
مارا صاد للكاتب الألماني السويدي بيتر فايس والتي قدمها في ذات يوم من الأيام من على خشبة المسرح القومي بأم درمان ، كما تشرفت للعمل معه كمساعد مخرج في بعض المسرحيات
أذكر منها مسرحية
" مجلس
تأديب "
من تأليفه وإخراجه
،
مأساة الحلاج
صلاح عبدالصبور
كان الفكي عبدالرحمن دائم الحديث عن النصيري ، وعندما نجلس سوية لتناول طعام الغذاء يكون موضوع " الونسة "
النصيري ، وعندما عرف أنني أحبه قال لي "
إنت في السليم
يقول كمال الجزولي عن شوقي:
عاشق للمسرح منذ يفاعته الباكرة. وقد لفت إليه الأنظار، ما بين 1962 ـ 1963م، بأدائه التَّمثيلي المتميِّز، وهو، بعدُ، تلميذ في المرحلة الوسطى، من خلال برنامج "الإنجليزيَّة بالتلفزيون" الذي كان بعض المدرِّسين الإنجليز يُعدُّون مادَّته التعليميَّة الأساسيَّة للمدارس الثانويَّة بالعاصمة، وكانت مزوَّدة، وقتها، بأجهزة استقبال تلفزيوني!
وحتى قبل أن يلتحق بكليَّة الآداب بجامعة الخرطوم كان صيته قد سبقه إليها بحكم الجوار بين "البَرَكس" وبين مدرسة الخرطوم الثانويَّة التي درس بها، والتي لطالما كشفت خشبة مسرحها عن طاقاته الإبداعيَّة، حيث أسَّس "جمعيَّة التمثيل" التي قدَّمت، خلال السنوات 1964 ـ 1967م، أعمالاً مدهشة بإمكانات شحيحة، أهمَّها "مصرع كليوباترا" لأحمد شوقي، و"مخلب القرد" بالإنجليزيَّة، تحت إشراف المربِّيين الجَّليلين عوض كرَّار وعبد الله محي الدِّين الجِّنيد.
لم يكن المسرح قد ازدهر، بعد، في الجَّامعة، أوَّل النِّصف الثَّاني من السِّتِّينات، إلا أعمالاً قليلة كمسرحيَّة "الحبل" ليوجين أونيل، من إخراج عبد الرَّحيم الشِّبلي عام 1965م. وحين كان شوقي على أعتاب الجَّامعة، كان النَّشاط المسرحي فيها قد صارشيخا و جمهور كبير درج على التَّدفُّق من شتى أنحاء العاصمة، في أمسيات ذلك الزَّمان، لمشاهدة العروض المبهرة لفناني مسرح "جمعيَّتي الثَّقافة الوطنيَّة والفكر التَّقدمي" آنذاك. ويبدو لهذا السبب أن جمهور مسرحية " نبته حبيبتي" كان يأتي بالباصات
بمجرَّد التحاقه بالجَّامعة.
احتضنه عثمان جعفر النِّصيري، عمدة النَّشاط المسرحي، وقتها، في تينك الجَّمعيَّتين، وقدَّمه على م "قاعة الامتحانات" كما يقول كمال في مسرحيَّة "المغنِّية الصَّلعاء" ليوجين يونسكو، ضمن تيار "اللامعقول" الذي كان رائجاً، يومها، في غالب المسرح العالمي. منذ ذلك الحين، وعلى مدى سنواته الجَّامعيَّة ما بين 1967 ـ 1972م، سطع نجم شوقي، كممثل مسرحي، إلى جانب سلمى بابكر، ومحمَّد دوعالي، ومحمود تميم ومأمون زروق، ومأمون الباقر، وهشام الفيل، وآسيا محمَّد الحسن وغيرهم، في عدد من المسرحيَّات التي أنتجتها الجَّمعيَّتان، وأخرجها النِّصيري، وأهمّها "جان دارك" لبرنارد شو، و"الكراسي" ليونسكو، و"مارا صاد" لبيتر فايس؛ كما مثَّل في "سمك عسير الهضم" لبيتر فايس أيضاً، من إخراج علي عبد القيوم وطه أمير.
كذلك نفس الفترة، في عدد آخر من المسرحيَّات، على خشبة "المسرح القومي" بأم درمان، كـ "مجلس تأديب"، من تأليف وإخراج النِّصيري، و"حفلة سمر من أجل 5 حزيران" من تأليف سعد الله ونُّوس وإخراج علي عبد القيوم،وهي المسرحية الوحيدة التي كان مسموحا بها في العالم العربي !!!!! بالإضافة إلى "مارا صاد" كتجربة عالميَّة جديدة على "المسرح القومي" آنذاك؛ وعمل، أيضاً، في مسرحيَّات أخرى، باللغة الإنجليزيَّة، على خشبة مسرح "سودان كلوب Sudan Club" بالخرطوم. وإلى ذلك كان يُعدُّ ويُقدِّم، طوال تلك السَّنوات، برنامج "سينما سينما" التثقيفي بالتلفزيون.
(4)
بعد تخرُّجه عام 1972م، نشط شوقي، ولأوَّل مرَّة تحت الاسم الجَّديد للحركة المسرحيَّة بالجَّامعة: "المسرح الجَّامعي"، في إخراج عدد من المسرحيَّات بـ "قاعة الامتحانات"، أشهرها "الدَّرس" ليونسكو، و"الخطوبة" لتشيخوف، و"هاملت" لشكسبير، و"زيارة السَّيِّدة العجوز" لفريدريك دورنمات. كما قام بإعادة إخراج "العصفورة والممثلون" ليوسف عايدابي، برؤية تختلف عن تلك التي سبق أن أخرجها بها فتح الرَّحمن عبد العزيز لمهرجان الشَّباب العربي بالجَّزائر عام 1970م، وكان شوقي قد عمل معه فيها كممثل. وقام، إلى ذلك، بإخراج "هاملت"، باللغة الفرنسيَّة، على خشبة مسرح "المركز الثَّقافي الفرنسي بالخرطوم"، حيث ترجمها من الإنجليزيَّة د. نور الدِّين ساتِّي، ولعب دوربطولتها مارك أتونزيو، مدير المركز آنذاك!
تميَّز شوقي، كمخرج، باستخدام تقنيَّات حديثة وجريئة، وقتها، كإدماج التَّكنيك السِّينمائي، مثلاً، في العرض المسرحي، وبالأخصِّ "الفولو سبوت follow spot"، إذ أعانته إمكانيَّات التحكُّم في بقع الضَّوء على جذب التَّركيز إلى مشاهد بعينها، أو إلى لحظات بعينها من المَشاهد، مستعيناً بمُعدَّات إضاءة متقدِّمة، وقتها، مكنته منها المرحومة سعاد إبراهيم أحمد التي كانت ركيزة من ركائز كليَّة "الدِّراسات الإضافيَّة"، والنَّشاط الثَّقافي الطلابي، قبل فصلها من الجَّامعة، حيث أسهمت في تأسيس "نادي السِّينما"، ودعم النَّشاط المسرحي. وكانت فرقة مسرحيَّة إنجليزيَّة قد استجلبت تلك المُعدَّات إلى السُّودان، أواخر السِّتِّينات، لتقديم مسرحيَّة "حلم منتصف ليلة صيف" لوليم شكسبير، ثمَّ تركتها هديَّة للجَّامعة. لكنها ظلت مهملة بمخزن "الدِّراسات الإضافيَّة"، حتى عثر عليها شوقي، بالمصادفة، وتمكن منها بمساعدة سعاد.
وما يزال الأثر المشهود على "المسرح القومي" من جانب تينك الجمعيَّتين التَّقدُّميَّتين و"المسرح الجَّامعي"، باباً مهمَّاً في تطوُّر المسرح السُّوداني يُنتظر أن تحيط به همَّة الباحثين والدَّارسين المتخصِّصين.
(5)
تجاذب شوقي، عقب تخرُّجه، خيارا العمل بـ "معهد الموسيقى والمسرح"، إلى جانب صديقيه عبد الهادي صدِّيق ويوسف عايدابي وآخرين، أو العمل بـ "مؤسَّسة الدَّولة للسِّينما"، حسب رغبة صديقيه المرحومين علي المك، مديرها آنذاك، وحسين شريف. لكنَّ شوقي فضَّل الالتحاق، لسبب ما، بالعمل في المعهد؛ وكان اختياراً غير موفِّق، على ما يبدو، إذ سرعان ما جرى اعتقاله وفصله من الخدمة! وكان أوَّل وآخر عمل له، قبل فصله، هو مساعدة أدريان ولش، الخبير البريطاني المنتدب إلى المعهد، في تدريب الطلاب على إخراج مسرحيَّة "ماكبث" لشكسبير.
بعد وساطات مكثَّفة تمَّت إعادته للخدمة بالحكومة، لكن في وظيفة مساعد مفتش بـ "مصلحة الغابات" بالفاشر (!) وهو القرار الذي رفضه شوقي بصرامة، إذ استشعر فيه قصد النَّفي بعيداً عن البيئة الموَّارة بحركة الفن المسرحي. ثمَّ ما لبثت أن عادت كرَّة الوسـاطات، على يد دفـع الله الحاج يوسف، صديق العائلة الذي نجح في إلحاقه، هذه المرَّة، بوزارة التَّربية والتَّعليم. ولحسن الطالع كان شفيق شوقي قد عُيِّن، في تلك الفترة، مديراً لإدارة "المسرح المدرسي" بالوزارة، فألحق شوقي بها مع طيِّب الذِّكر خالد أبو الرُّوس، فأعدَّ دراسة متكاملة لإحياء الحركة المسرحيَّة بالمدارس. لكن سرعان ما تمَّ نقل شفيق مديراً لقاعة الصَّداقة، ففقد شوقي الدَّعم والسَّند، وتمَّ نقله، في منتصف السَّبعينات، معلماً للغتين الإنجليزيَّة والفرنسيَّة بالمدارس الثَّانويَّة. لكنه، مع ذلك، سرعان ما رمى بثقله في تنشيط مشروع "المسرح المدرسي"، فأخرج، مع تلاميذ "مدرسة الضَّو حجوج الثانويَّة للبنين"، مسرحيَّة "هاملت" لشكسبير باللغة الإنجليزيَّة، وشارك بها في الدَّورة المدرسيَّة بمدني، آنذاك، حيث أحرز الميداليَّة الذهبيَّة في الإخراج. وفي الأثناء أكمل كورساً بـ "معهد الخرطوم لتدريس اللغة العربيَّة للنَّاطقين بغيرها"، بينما ظلَّ يواصل كتابة النَّقد المسرحي في الملاحق الثَّقافيَّة بالصُّحف اليوميَّة، إضافة للمشاركة في النَّدوات العامَّة. غير أن الأذرع الطويلة ما لبثت أن امتدَّت، للمرَّة الألف، لتتسبَّب في فصله من التَّربية والتَّعليم!
عند ذاك قرَّر شوقي أن يأخذها من قصير، فحوَّل عربته الخَّاصة إلى تاكسي، وظلَّ يعمل بها، دون جدوى تذكر، لعدم سابق معرفته بدقائق هذه المهنة وأسرارها، حتَّى 1980م، حين أصرَّ بعض أهله بسلطنة عُمان على استقدامه للعمل هناك، فالتحق، منذ ذلك الوقت، ببعض معاهد اللغات بمسقط، كـ "معهد بوليقلوت عُمان" للتَّرجمة المتخصِّصة وتدريس اللغة الإنجليزيَّة، وهو عمل يستهلك طاقاته كلها "من دغش الصُّبح إلى انحباس الضَّوء في المساء"! ورغم أن هذا العمل وفَّر له لقمة العيش الكريمة، ومكَّنه، مع زوجته الأستاذة الجَّامعيَّة بثينة أمير، من تربية وتعليم ابنتهما شيراز، طبيبة الأسنان، الآن بدولة الإمارات، وولدهما هشام، المحاسب، الآن، بكندا، إلا أنه، وللأسف، جعل شمس فنه تغرب عن حركة المسرح السُّوداني، بينما كان في قمَّة استعداده لطرح أنضج ثماره، بل ويغرب هو نفسه، فيزيقيَّاً، عن السُّودان ذاته!
بقلم : بدرالدين حسن علي
وهؤلاء من فرسان المسرح السوداني وأيضا فرسان التلفزيون و السينما السودانية ، ظلوا دائما منذ نعومة أظافرهم خلف الكواليس وفي مقدمة المسرح " كلام مفيد حركة جد " ، إنهما د.عثمان جعفر النصيري و شوقي عز الدِّين الأمين، عاشق الخشبة، ونجم "المسرح الجَّامعي" خلال أواخر السِّتينات وأوائل السَّبعينات كما قال صديقه الودود كمال الجزولي ،والذي أشكره كثيرا لأنه ينعش ذاكرتنا بكتابته الرصينة عن المسرح السوداني ، فقد كتب مقالا كاربا مؤخرا خصص الجزء الكبير منه للشاب الظريف شوقي عزالدين . زارني هو وزوجته بثينة امير في تورنتو وكان مقيما مع عبدالرؤوف
الإلكتروني ً، أتى من مقرِّ عمله وإقامته بمسقط ، يحلو لي أن أناديه يا
" ابوسفنجة "
ولا أدري إن كان قد تركها في مدينة قابوس الفاضلة
شوقي من جيل المسرحيين الأفذاذ الذين بنوا أعمدة "المسرح الجَّامعي
"،وخرج المسرح السوداني من معطفهم !!!!!
مدينة رفاعة التاريخية قدمت الكثير جدا من الشخصيات البارزة في جميع المجالات مما يصعب ذكرهم "بابكر بدري مثلا " ولكن يهمني من ذلك الأستاذ الدكتور عثمان جعفر النصيري والأستاذ الدكتور يوسف عايدابي، كلاهما أعطى للمسرح السوداني الكثير وكلاهما إفتقدهما المسرح وافتقد ذلك العطاء الراقي الأخاذ ، الأول هاجر إلى بريطانيا وكنا نتوقع هجرة قصيرة يعود بعدها لمواصلة ذلك العطاء ولكن سنوات الغربة طالت ، والثاني أيضا هاجر من السودان إلى إمارة الشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة ، وكنا أيضا نظنها هجرة قصيرة يعود بعدها لمواصلة ذلك العطاء المخلص للمسرح
السوداني ، ولكن سنوات الغربة طالت على الرغم من تفوقهما في المجال الثقافي المسرحي في بلاد الغربة .
أبدأ بدعوتكم لمطالعة ما سطره يراع صديقي الكاتب الصحفي اللامع جعفر عباس عن الفنان المسرحي عثمان جعفر النصيري :
يقول جعفر : كان العمل في تلفزيون بي بي سي ممتعا، لأن غالبية العاملين فيه كانوا من العرب،يقول النصيري : وحتى البريطانيون الذين كانوا يعملون معنا، كانوا من الذين سبق لهم العمل في بلدان عربية، وإلمامهم باللغة العربية يتراوح ما بين «مقبول» و«جيد، ومن غرائب الصدف أن جميع الخواجات الذين عملوا معنا في بي بي سي - ما عدا اثنين - عملوا بالتدريس في السودان، وكان أربعة منهم قد غادروا السودان قبل التحاقهم بهيئة بي بي سي بفترة قصيرة ، وهم عادة خريجو أعرق الجامعات البريطانية - وبالتحديد أوكسفورد وكيمبردج - ويتطوعون للعمل في دول العالم الثالث حينا من الزمان لينالوا درجاتهم الجامعية العالية، أي أنهم كانوا ملزمين بالتطوع، ولم تكن حكومات البلدان التي يعملون بها ملزمة بمنحهم رواتب معلومة بل فقط «بدل طعام» مع توفير المسكن، ولا يوجد بين أبناء وبنات جيلي من لم يدرس الإنجليزية على أيدي مدرسين بريطانيين، بل حتى بعد إكمالي دراستي الجامعية والتحاقي بالتدريس كان هناك مدرس بريطاني واحد في كل مدرسة ثانوية في السودان.
يقول حعفر عباس :
كان معي بعض العرب ، وكان كبيرنا هو عثمان جعفر النصيري، كان كبيرنا عمرا وعقلا وفهما ووعيا، وكان النصيري يسبقنا بعامين أو ثلاثة في جامعة الخرطوم، حيث درس فيها القانون، مع أنه ظل خارج القانون ومرتاد سجون منذ أن دخل المدرسة الثانوية، فقد كان شيوعيا على السكين، وكانت له صولات وجولات خلال الندوات الجامعية مع علي عثمان طه طالب القانون مثله، وحتى بعد أن نال البكالوريوس وترك الحزب الشيوعي واصل النصيري خروجه على القانون ، أعني أنه لم يمارس القانون الذي درسه قط لا جالسا ولا واقفا، بل كرس كل وقته وجهده للمسرح، وأستطيع ان أقول بضمير مستريح أنه، ومن بعده الشاعر الراحل علي عبد القيوم، من رسخ قوائم المسرح الجامعي، وبعد أن عمل في المسرح القومي السوداني فترة قصيرة سافر الى بريطانيا لدراسة المسرح، وعاش سنوات تبهدل فيها وبهدل فيها زميلتي في كلية الآداب جامعة الخرطوم، سلمى بابكر الريح، التي تزوج بها.. كان بإمكان النصيري أن يعيش عالة على دافع الضرائب البريطاني كما يفعل الكثيرون، أي أن يتقاضى راتبا معلوما من هيئة الضمان الاجتماعي، ولكنه آثر أن يعيش من عرق جبينه، ومارس مهنا يترفع عنها حتى الأميون الذين نالوا حق الإقامة في بريطانيا بالأوانطة، بزعم أنهم مضطهدون سياسيا ، لم يقل أنا جامعي وعندي ماجستير ومثقف وأتقن الإنجليزية أفضل ممن ولدوا ناطقين بها، ولن أقبل إلا بوظيفة تليق بخبراتي وقدراتي
كما يتعلل بعض الذين أدمنوا البطالة
ويختم جعفر عباس قائلا : والنصيري أقرع ونزهي، فرغم أنه عاش سنواته الأولى في بريطانيا على الكفاف، فإنه أسس دارا للبحوث والنشر وأصدر كتبا ذات قيمة تاريخية وتوثيقية عالية، وكانت الدار عبارة عن تربيزة (طاولة) في ركن في بيته، وإلى يومنا هذا مازال النصيري مشغولا بأمور التوثيق والثقافة، وعاد الى السودان مرتين بنية الاستقرار فيه نهائيا، ولكنه وجد في المرتين من الصدّ والعراقيل ما جعله يفكر في الاستقرار في بريطانيا نهائيا، ولم يطالب بمنحه جواز السفر البريطاني إلا بعد قرابة عشرين سنة من إقامته في بريطانيا، مع أنه كان يستحقه منذ سبعينيات القرن الماضي.
بعد هذه المقدمة الشيقة سأدخل في الموضوع بدون فذلكة تاريخية رغم أهميتها ، في يوم من تلك الأيام الجميلة وتحديدا في أوائل السبعينات من القرن الماضي وبعد مناقشة ساخنة مع الراحل المقيم الفكي عبدالرحمن وكان يومها مدير المسرح القومي بأم درمان ، أعربت له عن رغبتي في الإنضمام إلى أسرة المسرح ، أبدى موافقته الكاملة على ذلك ، وفي اليوم التالي أنهى إجراءات تعييني موظفا في المسرح القومي بأم درمان . والذي تم في نفس يوم تعيين صديقيّ اللدودين صلاح الفاضل ومحمد شريف علي ، الأول وصل مدير إذاعة أم درمان والثاني مدير المسرح القومي .
كنت في تلك الفترة أقرأ أكثر من كتاب في اليوم الواحد عن المسرح ، لدرجة أن والدتي - الله برحمها - كانت عندما تخاطبني تقول لي : أسمع يا مسرحنجي إنت !!!!
ويبدو أنني كنت محظوظا ، فمنذ الأيام الأولى لي في "الحوش" - الإذاعة والتلفزيون والمسرح - تعرفت على شخصيات هامة ولكن سأحدثكم عن الشخصيات التي تعرفت عليها في المسرح مثل : عثمان جعفر النصيري ،
انا لا أكتب سيرة ذاتية لشوقي عزالدين ولا لعثمان جعفر النصيري وإلا لكتبت عن الجبهة الديموقراطية بجامعة الخرطوم والمسرح الجامعي وأباداماك ، وإنما أكتب عن أهمية النصيري للمسرح السوداني ، فالنصيري كاتب مسرحي ومخرج جيد ، ومحاور ومنظر بارع جدا ، لماح ، قلب كبير ونادرا ما تجده غاضبا ، تقرأ في عينيه الكبيرتين خريطة الوطن كلها ، بمعنى آخر إنسان مفيد جدا ، وكان يمكن أن يكون مفيدا للمسرح لو استقر به المقام في السودان بعد التحصيل الدراسي ، وقد عايشت عن قرب تجربته للتوثيق للمسرح السوداني من خلال كتابه صغير الحجم كثير الفائدة "
المسرح في السودان
"1905- 1915 " وكتابات ومقالات أخرى .
ومن الصعب أن يذكر النصيري من دون ذكر سلمى بابكر الريح ، وهي أيضا ممثلة غير عادية ولكنها فارقت المسرح منذ إنتهاء تجربة المسرح الجامعي ،
عثمان جعفر النصيري ذكي جدا و "نضام " ومثقف جدا وموهوب جدا ، وقد شاهدت له عددا من المسرحيات التي أخرجها على أيام المسرح الجامعي بجامعة الخرطوم أذكر منها وعلى سبيل المثال العجكو
مارا صاد للكاتب الألماني السويدي بيتر فايس والتي قدمها في ذات يوم من الأيام من على خشبة المسرح القومي بأم درمان ، كما تشرفت للعمل معه كمساعد مخرج في بعض المسرحيات
أذكر منها مسرحية
" مجلس
تأديب "
من تأليفه وإخراجه
،
مأساة الحلاج
صلاح عبدالصبور
كان الفكي عبدالرحمن دائم الحديث عن النصيري ، وعندما نجلس سوية لتناول طعام الغذاء يكون موضوع " الونسة "
النصيري ، وعندما عرف أنني أحبه قال لي "
إنت في السليم
يقول كمال الجزولي عن شوقي:
عاشق للمسرح منذ يفاعته الباكرة. وقد لفت إليه الأنظار، ما بين 1962 ـ 1963م، بأدائه التَّمثيلي المتميِّز، وهو، بعدُ، تلميذ في المرحلة الوسطى، من خلال برنامج "الإنجليزيَّة بالتلفزيون" الذي كان بعض المدرِّسين الإنجليز يُعدُّون مادَّته التعليميَّة الأساسيَّة للمدارس الثانويَّة بالعاصمة، وكانت مزوَّدة، وقتها، بأجهزة استقبال تلفزيوني!
وحتى قبل أن يلتحق بكليَّة الآداب بجامعة الخرطوم كان صيته قد سبقه إليها بحكم الجوار بين "البَرَكس" وبين مدرسة الخرطوم الثانويَّة التي درس بها، والتي لطالما كشفت خشبة مسرحها عن طاقاته الإبداعيَّة، حيث أسَّس "جمعيَّة التمثيل" التي قدَّمت، خلال السنوات 1964 ـ 1967م، أعمالاً مدهشة بإمكانات شحيحة، أهمَّها "مصرع كليوباترا" لأحمد شوقي، و"مخلب القرد" بالإنجليزيَّة، تحت إشراف المربِّيين الجَّليلين عوض كرَّار وعبد الله محي الدِّين الجِّنيد.
لم يكن المسرح قد ازدهر، بعد، في الجَّامعة، أوَّل النِّصف الثَّاني من السِّتِّينات، إلا أعمالاً قليلة كمسرحيَّة "الحبل" ليوجين أونيل، من إخراج عبد الرَّحيم الشِّبلي عام 1965م. وحين كان شوقي على أعتاب الجَّامعة، كان النَّشاط المسرحي فيها قد صارشيخا و جمهور كبير درج على التَّدفُّق من شتى أنحاء العاصمة، في أمسيات ذلك الزَّمان، لمشاهدة العروض المبهرة لفناني مسرح "جمعيَّتي الثَّقافة الوطنيَّة والفكر التَّقدمي" آنذاك. ويبدو لهذا السبب أن جمهور مسرحية " نبته حبيبتي" كان يأتي بالباصات
بمجرَّد التحاقه بالجَّامعة.
احتضنه عثمان جعفر النِّصيري، عمدة النَّشاط المسرحي، وقتها، في تينك الجَّمعيَّتين، وقدَّمه على م "قاعة الامتحانات" كما يقول كمال في مسرحيَّة "المغنِّية الصَّلعاء" ليوجين يونسكو، ضمن تيار "اللامعقول" الذي كان رائجاً، يومها، في غالب المسرح العالمي. منذ ذلك الحين، وعلى مدى سنواته الجَّامعيَّة ما بين 1967 ـ 1972م، سطع نجم شوقي، كممثل مسرحي، إلى جانب سلمى بابكر، ومحمَّد دوعالي، ومحمود تميم ومأمون زروق، ومأمون الباقر، وهشام الفيل، وآسيا محمَّد الحسن وغيرهم، في عدد من المسرحيَّات التي أنتجتها الجَّمعيَّتان، وأخرجها النِّصيري، وأهمّها "جان دارك" لبرنارد شو، و"الكراسي" ليونسكو، و"مارا صاد" لبيتر فايس؛ كما مثَّل في "سمك عسير الهضم" لبيتر فايس أيضاً، من إخراج علي عبد القيوم وطه أمير.
كذلك نفس الفترة، في عدد آخر من المسرحيَّات، على خشبة "المسرح القومي" بأم درمان، كـ "مجلس تأديب"، من تأليف وإخراج النِّصيري، و"حفلة سمر من أجل 5 حزيران" من تأليف سعد الله ونُّوس وإخراج علي عبد القيوم،وهي المسرحية الوحيدة التي كان مسموحا بها في العالم العربي !!!!! بالإضافة إلى "مارا صاد" كتجربة عالميَّة جديدة على "المسرح القومي" آنذاك؛ وعمل، أيضاً، في مسرحيَّات أخرى، باللغة الإنجليزيَّة، على خشبة مسرح "سودان كلوب Sudan Club" بالخرطوم. وإلى ذلك كان يُعدُّ ويُقدِّم، طوال تلك السَّنوات، برنامج "سينما سينما" التثقيفي بالتلفزيون.
(4)
بعد تخرُّجه عام 1972م، نشط شوقي، ولأوَّل مرَّة تحت الاسم الجَّديد للحركة المسرحيَّة بالجَّامعة: "المسرح الجَّامعي"، في إخراج عدد من المسرحيَّات بـ "قاعة الامتحانات"، أشهرها "الدَّرس" ليونسكو، و"الخطوبة" لتشيخوف، و"هاملت" لشكسبير، و"زيارة السَّيِّدة العجوز" لفريدريك دورنمات. كما قام بإعادة إخراج "العصفورة والممثلون" ليوسف عايدابي، برؤية تختلف عن تلك التي سبق أن أخرجها بها فتح الرَّحمن عبد العزيز لمهرجان الشَّباب العربي بالجَّزائر عام 1970م، وكان شوقي قد عمل معه فيها كممثل. وقام، إلى ذلك، بإخراج "هاملت"، باللغة الفرنسيَّة، على خشبة مسرح "المركز الثَّقافي الفرنسي بالخرطوم"، حيث ترجمها من الإنجليزيَّة د. نور الدِّين ساتِّي، ولعب دوربطولتها مارك أتونزيو، مدير المركز آنذاك!
تميَّز شوقي، كمخرج، باستخدام تقنيَّات حديثة وجريئة، وقتها، كإدماج التَّكنيك السِّينمائي، مثلاً، في العرض المسرحي، وبالأخصِّ "الفولو سبوت follow spot"، إذ أعانته إمكانيَّات التحكُّم في بقع الضَّوء على جذب التَّركيز إلى مشاهد بعينها، أو إلى لحظات بعينها من المَشاهد، مستعيناً بمُعدَّات إضاءة متقدِّمة، وقتها، مكنته منها المرحومة سعاد إبراهيم أحمد التي كانت ركيزة من ركائز كليَّة "الدِّراسات الإضافيَّة"، والنَّشاط الثَّقافي الطلابي، قبل فصلها من الجَّامعة، حيث أسهمت في تأسيس "نادي السِّينما"، ودعم النَّشاط المسرحي. وكانت فرقة مسرحيَّة إنجليزيَّة قد استجلبت تلك المُعدَّات إلى السُّودان، أواخر السِّتِّينات، لتقديم مسرحيَّة "حلم منتصف ليلة صيف" لوليم شكسبير، ثمَّ تركتها هديَّة للجَّامعة. لكنها ظلت مهملة بمخزن "الدِّراسات الإضافيَّة"، حتى عثر عليها شوقي، بالمصادفة، وتمكن منها بمساعدة سعاد.
وما يزال الأثر المشهود على "المسرح القومي" من جانب تينك الجمعيَّتين التَّقدُّميَّتين و"المسرح الجَّامعي"، باباً مهمَّاً في تطوُّر المسرح السُّوداني يُنتظر أن تحيط به همَّة الباحثين والدَّارسين المتخصِّصين.
(5)
تجاذب شوقي، عقب تخرُّجه، خيارا العمل بـ "معهد الموسيقى والمسرح"، إلى جانب صديقيه عبد الهادي صدِّيق ويوسف عايدابي وآخرين، أو العمل بـ "مؤسَّسة الدَّولة للسِّينما"، حسب رغبة صديقيه المرحومين علي المك، مديرها آنذاك، وحسين شريف. لكنَّ شوقي فضَّل الالتحاق، لسبب ما، بالعمل في المعهد؛ وكان اختياراً غير موفِّق، على ما يبدو، إذ سرعان ما جرى اعتقاله وفصله من الخدمة! وكان أوَّل وآخر عمل له، قبل فصله، هو مساعدة أدريان ولش، الخبير البريطاني المنتدب إلى المعهد، في تدريب الطلاب على إخراج مسرحيَّة "ماكبث" لشكسبير.
بعد وساطات مكثَّفة تمَّت إعادته للخدمة بالحكومة، لكن في وظيفة مساعد مفتش بـ "مصلحة الغابات" بالفاشر (!) وهو القرار الذي رفضه شوقي بصرامة، إذ استشعر فيه قصد النَّفي بعيداً عن البيئة الموَّارة بحركة الفن المسرحي. ثمَّ ما لبثت أن عادت كرَّة الوسـاطات، على يد دفـع الله الحاج يوسف، صديق العائلة الذي نجح في إلحاقه، هذه المرَّة، بوزارة التَّربية والتَّعليم. ولحسن الطالع كان شفيق شوقي قد عُيِّن، في تلك الفترة، مديراً لإدارة "المسرح المدرسي" بالوزارة، فألحق شوقي بها مع طيِّب الذِّكر خالد أبو الرُّوس، فأعدَّ دراسة متكاملة لإحياء الحركة المسرحيَّة بالمدارس. لكن سرعان ما تمَّ نقل شفيق مديراً لقاعة الصَّداقة، ففقد شوقي الدَّعم والسَّند، وتمَّ نقله، في منتصف السَّبعينات، معلماً للغتين الإنجليزيَّة والفرنسيَّة بالمدارس الثَّانويَّة. لكنه، مع ذلك، سرعان ما رمى بثقله في تنشيط مشروع "المسرح المدرسي"، فأخرج، مع تلاميذ "مدرسة الضَّو حجوج الثانويَّة للبنين"، مسرحيَّة "هاملت" لشكسبير باللغة الإنجليزيَّة، وشارك بها في الدَّورة المدرسيَّة بمدني، آنذاك، حيث أحرز الميداليَّة الذهبيَّة في الإخراج. وفي الأثناء أكمل كورساً بـ "معهد الخرطوم لتدريس اللغة العربيَّة للنَّاطقين بغيرها"، بينما ظلَّ يواصل كتابة النَّقد المسرحي في الملاحق الثَّقافيَّة بالصُّحف اليوميَّة، إضافة للمشاركة في النَّدوات العامَّة. غير أن الأذرع الطويلة ما لبثت أن امتدَّت، للمرَّة الألف، لتتسبَّب في فصله من التَّربية والتَّعليم!
عند ذاك قرَّر شوقي أن يأخذها من قصير، فحوَّل عربته الخَّاصة إلى تاكسي، وظلَّ يعمل بها، دون جدوى تذكر، لعدم سابق معرفته بدقائق هذه المهنة وأسرارها، حتَّى 1980م، حين أصرَّ بعض أهله بسلطنة عُمان على استقدامه للعمل هناك، فالتحق، منذ ذلك الوقت، ببعض معاهد اللغات بمسقط، كـ "معهد بوليقلوت عُمان" للتَّرجمة المتخصِّصة وتدريس اللغة الإنجليزيَّة، وهو عمل يستهلك طاقاته كلها "من دغش الصُّبح إلى انحباس الضَّوء في المساء"! ورغم أن هذا العمل وفَّر له لقمة العيش الكريمة، ومكَّنه، مع زوجته الأستاذة الجَّامعيَّة بثينة أمير، من تربية وتعليم ابنتهما شيراز، طبيبة الأسنان، الآن بدولة الإمارات، وولدهما هشام، المحاسب، الآن، بكندا، إلا أنه، وللأسف، جعل شمس فنه تغرب عن حركة المسرح السُّوداني، بينما كان في قمَّة استعداده لطرح أنضج ثماره، بل ويغرب هو نفسه، فيزيقيَّاً، عن السُّودان ذاته!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق